الشعرُ في مقاسات النقد والتلقِّي

ثقافة 2023/05/18
...

  طالب عبد العزيز 

 تكشف أماسي الشعر التي يقيمها الشعراء في أيِّ مكان، وبأيِّ لغة، قرئ وسمع الشعرُ فيها عن آراء ومستويات كثيرة في التلقي والقبول، وربما كشفت عن تقاطعات وخصومات، وليس في القضية من غرابة إذا ما انقسم المجتمعون في القاعة الواحدة الى أكثر من فريق، بين مقتنع ومستجيب لما سمع وتفاعل معه، وفريق تجاذبتهم ثنائية القبول والرفض، ومن تعجَّل الرفض فغادر القاعة، بمن فيها، ولم ينتظر كلمة الختام، ليقول رأياً إيجابا أو سلباً، وهذا ديدن قديم، وتلك سنة في الأولين والآخرين.

  قد تصلح أن تكون الرؤيةُ هذه مفتاحاً لكل حديث مسموع ومكتوب، ولأننا في وارد الحديث عن الشعر فسيكون حديثنا فيه تحديداً، وعن مجالسه في العراق، بوصفها من أهمِّ مجالسه وأخطرها، بل وأكثرها احتداماً، وأشدها غرابةً ايضاً، إذ إنَّها وبعد ثلاثة أرباع القرن على تجربة الريادة والتجديد (السيّابيَّة، البيّاتيَّة والملائكيَّة) ما زال الجواهري حاضراً وبقوة فيها، وبعد ثورة سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وسركون بولص.. مازال بينهم من يستحضر عبد الرزاق عبد الواحد لا من حيث ابتدأ به وإنِّما الى من حيث انتهى، وأخطر من ذلك أنَّ الأمر لا يقتصر على الشعراء وآلية تفكير الجهات المنظِمَة إنما تجاوزه الى الجمهور، الذي ما زال بعضُه واقفاً متجمداً عند لحظة جواهري العشرينات وثمانينات عبد الرزاق الى اليوم، وما (نفائس) السيَّاب والبياتي ويوسف الصائغ وسعدي وسركون وسواهم عندهم إلا البقعة السوداء في الثور الأبيض.

  لا يمكن أن تكون نقطة امرئ القيس أو المتنبي وأبي تمام وصولا إلى شوقي والجواهري معياراً نقدياً، وآليةً في تلقي وفهم الشعر إلى الأبد، ولا يمكن ان تكون نقطة السيّاب وجيله والذين من بعدهم نقطة توقف وفهم أيضاً، بل ومن غير اللائق محاكمة شعراء قصيدة النثر مثلاً إن لم يكونوا قد مرَّوا وتوقفوا عند أحدٍ من هؤلاء، ولا يباح لأحد بأنْ يعيب على الشاعر المولود في تسعينات القرن الماضي جهله بالوزن وبحور الشعر وحماسة ابي تمام ومعارك جرير والفرزدق..  ومناكفات شوقي وحافظ ابراهيم، أو الزهاوي والرصافي، فهذه مآثر لا تحمل درجة في التقديس، والجهل بها لا يعني فساد قصيدة الشاعر، إذ نحن امام جيل جديد وذائقة جديدة، مختلفة تشبّعت بمعطيات عصرها، صنعتها آلة وعيٍّ جديد، وسريع التحولات، مكنتها من رؤية ما هو أكثر أهمية من ذلك كله.

   لا تستدعي القصيدةُ الحديثة شكلاً معيناً، هو يتحقق خارج وعي الشاعر، لأن لحظة الكتابة مختلفة، هي خارج الزمن (ميتافيزيقية) بتعبير باشلار، وربما أخذت القصيدة مساراً مختلفاً، واقترحت موضوعاً آخرَ، أو امتلكت قابليتها على التشظي في عنوان قادم، لقصيدة مختلفة أخرى، شكلا وموضوعاً. يقول كونديرا: «الكتابة تتحقق عندما تتجاوز الحدود، التي تفرضها اللغةُ عليها، واللغة عنده أداة فاشلة بالمناسبة». «لأنَّ الشعرَ هو الذي يجعل لحظة الوجود لا تنسى، وتستحق حنيناً لا يطاق»..  

  وفي رأي مختلف، ربما، يكتب الناقد د. ضياء الثامري: «الشعرُ في أحسن صوره هو التجربة الشخصية للشاعر، والشاعر المُجيد هو من يُحسن التعبيرَ عن تجربته بدقَّة، ومن ثم مقدرته على إيصال هذه التجربة للمتلقي، والشعر الذي يكون على وفق هذا الفهم لن يكون بحاجة إلى أيِّ توصيف نقديٍّ، التوصيف في معظم الأحيان يُذهِبُ بروعته. في تجارب بعض الشعراء لا ينبغي أن ننشغل بالبحث عن الشكل أو الصورة أو الموسيقى أو اللغة.. فكل ذلك لن يكون

مجدياً».

     وبمعنىً ما، قد لا نجد في آلة النقد ما نستعين به أو نطبقه على فهم بعض النصوص، التي ضاقت بها طاقة اللغة، ومقدرتها على التعبير، فتمردت على الشكل، أيِّ شكل، وأتتنا مختلفة، خارج مسطرة النقد وموضوعية القراءة والتلقي. لذا، سيكون من المستحيل جداً جسَّ نبّض القصيدة الحديثة (بسمّاعة) المتنبي أو الجواهري أو السيَّاب وربما أيِّ شاعر آخر. نحن أزاء جمهور عريض (شعراء ومتلقين) تجاوزوا عتبة التلقي والقراءة التقليدية تلك، الى فضاءات الشعر الأخرى، غير المحدودة، وهذا لا يعني تنكّرهم وجحودهم للأثر، وأنَّهم بلا بطرياركية ثقافية، أبداً، وإنْ لم نعثر في أنساغ شعرهم على ما يمتُّ بصلةٍ للأثر ذاك، ذلك لأنَّ الهضم والتمثل يختلفان ويتباينان عند شاعر

وآخر.