خطَّاطون في وداع «البغدادي»: كأنَّه لم يرحل

ثقافة 2023/05/18
...

  كوكب السياب

برحيل الخطاط العراقيّ الكبير عباس البغدادي، تكون مدرسة الخط العربي قد خسرت أحد أعلامها الكبار، الذي توفي عن 74 عاماً، بعد تدهور حالته الصحيَّة منذ أكثر من عامين، تاركاً الكثير من المنجزات المهمة في عالم الخط العربي، أهمها كرّاسات ثلاث صارت مرجعاً لدارسي الخط العربي، وقد تتلمذ على يده العشرات من الخطاطين في العراق والوطن العربي.

ولعل جميع العراقيين يعرفون البغدادي، حيث شاهدوا حروفه على «الجنسية، شهادة الجنسية، جواز السفر»، فضلاً عن خط العملات العراقية أثناء طبعها داخل العراق، بحسب مقرّبين منه.

والراحل، المولود في بغداد، نهاية العقد الأربعيني من القرن الماضي، بدأ حياته الفنية بالرسم، لكنه غادره في وقت لاحق ليتفرّغ للخط العربي، كما أجاد أيضا فنون الزخرفة والتصميم والطباعة، بموهبةٍ لا تُدانى.

عمل البغدادي خطاطاً في داري العربية والحرية للطباعة والنشر ببغداد 1975 - 1980. وتسنّم منصب رئيس الخطاطين في الدولة العراقية 1988 - 2003، كما شغل منصب رئيس جمعية الخطاطين العراقيين ببغداد 1999 - 2003، وأستاذ الخط العربي لجمعية الخطاطين العراقيين ببغداد 1975 – 1990.

بعد خروجه من العراق في العام 2003، قام بتدريس مادة الخط العربي في عمان لغاية العام 2008، وهناك صمم بعض أعمال الخط العربي للعائلة المالكة الاردنية، فيما قام بخط عناوين “كتاب الكسوة الشريفة”، في المملكة العربية السعودية عام 2006، وفي الإمارات شارك في تصميم العملة الخاصة بإمارة أبوظبي عام 2007.


أول لقاء

يقول الخطاط طه الهيتي، إنه التقى أستاذه البغدادي أولَ مرةٍ في العام 1985، بمكتبه الكائن في “راس الحواش” بمنطقة الأعظمية، ليس بعيداً عن مدرسة الهيتي الثانوية في كلية بغداد الأنموذجية.

ويضيف الهيتي، في حديثه لـ “الصباح”: “أخذني إليه طبيبٌ فنان من أصدقاء والدي، بعد رؤيته لأعمالي في الخط العربي. ولا يغيب عن ذاكرتي أول لقاء به، حيث كان مكتبه عبارة عن ركن صغير في فرع صغير، وبرغم صغر ذلك المكتب (حيث انتقل بعد ذلك إلى مكتب أكبر بغرفتين في الطابق الأول أو الثاني من بناية قريبة) واحتوائه على مكتب للبغدادي، فضلاً عن (تخت) لجلوس الضيوف، إلا أنه كان مليئاً بخطوط البغدادي ومسوداته الجميلة بشتى أنواع الخطوط، حتى بدا ذلك الحيز الصغير وكأنه حديقة كبيرة ومثمرة من أجود ما ترى العين من الحروف العربية”.

ويواصل الهيتي حديثه: “حال جلوسي أمام استاذنا الجليل لمست برهبةٍ مرهفةٍ سعة علمه ورقة فنّه ودقة عمله، وأذكر أنه كان يعمل على مسودّة لاسم دكتور آخر، حتى أن حجم الكتبة كان أصغر وأدق مما تصورت، وكان يصحح زوايا الحروف على ورقة تريس (شبه شفافة) بعد أن كتب مسودتها بسلاية دقيقة”.ويمضي: “عرفته باسمي وعرضت عليه أعمالي في الخط، ولم يتردد الرجل في تناول بعض ما كتبته، مصححاً إياه بحبرٍ أحمر، وأذكر أنني، في ذلك اللقاء الأول، شعرت بسحره البغدادي، وشاهدته لأول مرة وهو يلوي ويفرك قلم الخط بيده وبمهارة فائقة، ليكتب أجمل أحرف رأيتها في حياتي على الإطلاق”.ولأن الهيتي كان طالباً في الثانوية (القريبة من مكتبه) فقد كان دائم التردد إلى أستاذه البغدادي وكانت تمارين طلابه (وهو منهم) تُشكّل نوعاً من “الاستفزاز الإيجابي” لديه، حسب قوله.

ويُبيّن الهيتي: “كان الراحل يستفيض في كتابة الأحرف وتسقيطها ووزنها، وتبيان نسبها الدقيقة من خلال كتابتها مرات ومرات، وبأحجام مختلفة، لبيان رقاب الحروف وأعينها وأحناكها وخواصرها وكؤوسها وما إلى ذلك من تسميات وتشبيهات الحروف”.ويؤكّد الهيتي: “عاصرت البغدادي منذ ذلك الحين في كل أوقاته، وحالاته واستحالاته، وشاهدته وهو غير راضٍ عن نفسه، ساعياً إلى تطوير حروفه التي كنّا نرنو الوصول إلى بعض من جمالياتها، إلا أنه قلما كان راضياً عن نفسه”.

ويختتم”: “اليوم بعد أن فقدنا هذا المنار الكبير، ليس لنا إلا أن نُعزّي أنفسنا بما تركه لنا من إرث جميل، ولا أظنّ أنني رأيت حرفاً يُكتب، أو كلمة تُركّب، أجمل مما كتب وأّلف وركّب وأجاد استاذنا البغدادي الجليل. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، واحتسب له كل حرفٍ كتبه بأجر عظيم”.

“استطاع البغدادي أن يُقدّم مدرسة بغدادية واضحة لفن الخطّ العربي، امتداداً للراحل هاشم البغدادي، وقد برع بهذا المجال كونه رساماً بارعاً ترك الرسم وتفرّغ للخط”، يقول الخزّاف المهندس رعد الدليمي، مواصلاً: “إذ يرحل بجسده فقد بقي خالداً بفنه وتحفه التي أثرت المكتبة الخطية جمالاً متحفياً ومنهجاً تعليمياً، أعماله تجعله معنا كأنه لم

يُغادر”.

نتاج مهم

ويوضّح الدليمي، في حديثه لـ (الصباح)، أن “البغدادي أنتج ثلاث كراسات للخط العربي، كانت من أروع ما أضافه للمدرسة الخطيّة، وهي (كراس ميزان الخط العربي) و(كراس النسخ المصحفي) و(كراس تحفة الميزان)، الذي يضم كل أنواع الخطوط كمجموعة شاملة، فضلاً عن خط (الجنسية وشهادة الجنسية والجواز)، وبعض العملات التي كانت تُطبع داخل العراق”.

ويشير الدليمي إلى أن “ما يُميّز الراحل براعته في في تشريح الحروف حد الجمال، فضلاً عن براعته في تنفيذ السطر الخطي، بنسب هندسية ذهبية، كما قدم تراكيب متقنة للوحة الدائرية والبيضوية والسطر المركب”، مبيناً: “كنت أستمتع بمشاهدة ما يكتبه بمزاج روحي كامل، وإن استمر لساعات، فلا إحساس بالملل بل متعة المشاهدة وتصفّح جمال الكتابة والإبداع بالزخرفة”.ولأنَّ الدليمي رافقَ البغدادي حيناً من الزمن، فقد حالفه الحظ على الكراسات الثلاث، اللاتي أشار إليهنّ في حديثه. وبهذا الشأن يقول: “هذه الكرّاسات من مقتنياتي الشخصية التي لا تقدر بثمن، وقد عمدتُ إلى طبع كراس (تحفة الميزان) في تركيا لتكون أجمل وأتقن كراس للخطوط بأنواعها الثلث والنسخ والإجازة والديواني والجلي ديواني والتعليق والرقعة، مع مجموعة من اللوحات الرائعة والحلي”.


مزار الخطاطين

من جهته، يرى الخطاط مرتضى الجصّاني أنّ “الراحل صاحب طريقة ومدرسة اجتهد كثيراً في سبيل إرساء أركانها ووضع قواعدها، وصرف جلّ وقته في التهذيب والتشذيب ورسم ونحت الحرف حتى صار سيداً للحروف”.

ويقول الجصّاني، في حديثه مع (الصباح): “لم يبخل البغدادي على متعلم بمعلومة أو تفصيلة تنفع، بل يضاعف جهده في سبيل إيصال تفاصيل الحرف إلى المتعلّم حتى أصبح مكتبه في الأعظمية مزاراً للخطاطين وعاشقي هذا الفن، بل زاد على ذلك تنفيذه للأعمال التجارية التي كان ينفذها حسب طلب الزبون، لكنه يجعلها خاضعة للقواعد الفنية، وبذلك تخرج من بين أنامله تحفة فنية يحافظ عليها أصحابها كأنّها درة ثمينة”.

ويؤكد الجصّاني أنّ “جميع أعمال الراحل مهمة وملهمة، لأنّه يعيش حالة من التصوّف في كتابة كل حرف ويجتهد في وضع الحروف في أماكنها. ويمكن عدّ لوحاته تحفاً فنيّة ثمينة لأنّها كلفته الكثير من الجهد والتفكير والبحث”، مبيناً: “لم أكن من المقربين من البغدادي لكنّي تتلمذت على حروفه ولوحاته وأستطيع القول أني قرأته فنياً

وتقنياً”.