لم يهدأ العراق ولا مؤسسته العسكرية منذ اليوم الأول لنجاح الانقلاب على عبد الكريم قاسم في ٨ شباط ١٩٦٣، ولم يستمر الاتفاق بين البعثيين وعبد السلام الذي أنجح هذا الانقلاب سوى بعض شهور طفت على السطح السياسي من بعدها بقليل، تناقضات المصالح، ومد النفوذ الى جميع القيادات والمناصب العسكرية، وساءت الادارة وامتد التدخل في الشؤون الأمنية والسياسية الى مستويات الإدارة الوسط وأقلها أحياناً، فنتج عن هذا وغيره من الأعمال الخطأ، نوعٌ من صراع التضاد: طرفه الأول، الجيش الذي تُحركه الحزبيَّة السياسيَّة، وتنخرُ في هيكليته المصالح الذاتية، وتشل قدراته المشاكل القائمة.
وطرفه الثاني، الحرس القومي الذي تشكل بالقانون رقم ٣٥ لسنة ١٩٦٣كرديفٍ للقوات المسلحة، مُنِحتْ له صلاحيات واسعة في المداهمة والتوقيف وإجراء التحقيق، وتجاوز أفراده في نقاط التفتيش والسيطرة المنتشرة في أنحاء العراق على العسكريين من الضباط والمراتب، حد الإهانة والتجريح.
طرفان متصارعان، متناحران، تعاملا على أساس الند للند، بعيداً عن المصالح المشتركة لكليهما والبلد، ما أثر سلباً في الجانب المهني للجيش العراقي وباقي أفرع القوات المسلحة، وكوَّن عداءً شديداً في نفوس منتسبيها للحرس القومي وقيادته ومنتسبيه، دفعت عديداً من الضباط للوقوف مع عبد السلام بغية التخلص من نفوذ الحرس، والحد من غلوائه الاستعلائي على القيادات العسكرية بضمنها البعثية. لقد دخل هذان الطرفان الرئيسان حلبة الصراع بقوة دفع سياسية ذاتية على الأغلب، ساعيان كلاهما للاستحواذ على الجهد التعبوي لقيادة الدولة، على الرغم من ارتباط الحرس القومي ضمن القانون الصادر لتشريعه برئاسة أركان الجيش، وتسليحه وتموينه من وزارة الدفاع، وزاد الصراع شدة بعد سعي قيادته الى تحجيم السلطة العسكرية بغية التمهيد الى سيطرة الحزب بجناحه العسكري الراديكالي على كامل مقوماتها، وهو جناح من الناحية التنظيمية لم يصل الى مستويات الأجنحة التنظيمية الاخرى للحزب ترتيباً وعدداً. إذ بينت بعض الكتابات عن هذا الموضوع مؤكدة ان قيادة حزب البعث عام ١٩٦٣ كانت مكونة من عمال يشكلون الربع، وطلاب يمثلون النصف، حتى وصل أحدهم هو خالد علي الصالح على سبيل المثال عضواً في القيادة القطرية وهو ما زال طالباً مستمراً في الدراسة الثانوية، وفيها القليل من الموظفين والضباط برتب صغيرة. وبينت أيضا ان الحزب لجأ الى منح الضباط الكبار درجات حزبية قيادية مثل طاهر يحيى وحردان عبد الغفار واحمد حسن البكر بترتيب يقترب من التعيين، من دون أنْ يمروا بالتدرج الحزبي التقليدي.. إجراء اتخذه الحزب في حينه لغرض تقوية هذا الجناح، وضمان ولاء الضباط وسيطرتهم على الحزب والقوات المسلحة في آن معاً، فسيطروا فعلاً واندفعوا بسيطرتهم لتنشيط غريزة الانقلاب وقيادة العسكر للحزب لمرحلة زمنيَّة تميزت بكثرة الانقلابات، انتهت بتنفيذ آخر انقلاب لهم عام 1968 أسهم بشكل واضح بإتمام مراحل هدم البنية القيميَّة للقوات المسلحة.