ها نحن ندخل العام الثالث على قرار انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي الذي نتج عن استفتاء الثالث والعشرين من حزيران عام 2016 حين صوت 51.9 في المئة من البريطانيين لصالح الانسحاب من المجموعة الأوروبية التي انضمت إليها المملكة المتحدة عام
1973.
ندخل العام الثالث والمملكة المتحدة تراوح مكانها وتخشى من مترتبات الانسحاب الاقتصادية وتواجه رفض برلمانها (ففي أواخر شهر آذار الماضي رفض مجلس العموم البريطاني اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي للمرة الثالثة بعد أن صوت 344 لرفضه وصوت 286 عضواً لصالحه) وغضب شريحة واسعة من المعارضين للانسحاب، في وقت ضاق قادة دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 ذرعاً بانتظار الخيارات البريطانية المتمحورة حول: البقاء في الاتحاد الأوروبي أم تمديد مهلة البقاء أم الانسحاب
كلياً .
مواعيد الانسحاب تعددت وكلها تأجلت.. فمن 29 آذار الماضي وهو التاريخ الرسمي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفقاً للقانون البريطاني، الى 12 نيسان الذي تأجل بطلب بريطاني الى 22 أيار المقبل وهو أجل أخير وليس نهائياً، أجل أخير لأنَّ على المملكة المتحدة أن تقرر فيما إذا كانت ستشترك في الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي ستجرى في كل الدول الأوروبية بين 23 الى 26 أيار المقبل، وأجل غير نهائي لأنَّ رئيسة الوزراء تيريزا ماي حاولت إقناع أعضاء الاتحاد الأوروبي بتأجيل موعد الخروج حتى الثلاثين من حزيران
المقبل.
وبعد جولة من الرجاءات البريطانية وافق المجلس الأوروبي على إعطاء مهلة جديدة لبريطانيا تنتهي في نهاية تشرين الأول المقبل. وقد كانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أكثر كرماً حين قالت من الممكن تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتى نهاية 2019 أو مطلع 2020. يجري ذلك في وقت أعلنت فيه وزارة الداخلية البريطانية أنَّ جوازات سفر بريطانية لا ذكر فيها للاتحاد الأوروبي وُضعت قيد التداول منذ 30 آذار الماضي.
إنَّ بريطانيا في ورطة كبيرة حيث يشترط عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب فك ارتباطها كلياً مع الاتحاد الأوروبي لكي تحصل على اتفاقية تجارية مع بلاده تصل قيمتها إلى تريليون و200 مليار دولار..
وتلك وعود “ترامبية” يمكن أنْ تذهب هباءً، ولكن الحقيقة الماثلة هي أنَّ الخسائر من الانسحاب كبيرة فقد سجل مكتب الإحصاء البريطاني تباطؤ نسبة النمو العام الماضي 1.4 %، بانخفاض عن 1.8 % المسجلة عام 2017. كما سجل النموّ 0.2 % فقط في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2018 وأن خامس أكبر اقتصاد في العالم، نما بنسبة 0.1 % في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2019.
وأنَّ إنتاج بريطانيا من السيارات انخفض بنسبة 9 % عن العام الماضي، وسوف تدفع السيارات البريطانية رسوماً جمركية قدرها 10 بالمئة عند تصديرها الى دول الاتحاد. لقد أضر الانسحاب بالاقتصاد البريطاني وتقدر الخسائر بين 2 و 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد سبق ان حذرت شركة “بي.دبليو.سي” من أنَّ بريطانيا ستتراجع من خامس أكبر اقتصاد في العالم إلى المركز السابع هذه السنة بسبب انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، بينما تتجه فرنسا والهند لتخطيها. ولم يعد أمام حكومة ماي سوى الخيارات التالية: أما إجراء انتخابات جديدة وبذلك تخاطر بحجب الثقة عنها أو مطالبة الاتحاد الأوروبي ببعض التنازلات وهو أمرٌ ترفضه فرنسا وألمانيا، أو التراجع عن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أو إعادة التصويت على بريكست وهو أمرٌ يطالبُ به بحماس عددٌ كبيرٌ من البريطانيين الذين صوتوا للانسحاب وندموا وبات يطلق عليهم اسم “الباقون الآن”.
وقد تمكن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير من قيادة أعدادٍ كبيرة من الراغبين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي. وفي آخر تقليعة لتقويض الحكومة أعلن عن أنَّ عدد الموقعين على عريضة تطالب الحكومة البريطانية بالتراجع عن عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي قد بلغ أكثر من ثلاثة ملايين
موقع.
وأياً كان الأمر فإنَّ المشروع الأوروبي ماضٍ ويتقدم بينما لم يوفق حتى اليوم الرهان الأميركي الروسي بإضعافه ولم يجرؤ على الانسحاب منه سوى المملكة المتحدة التي تعاني اليوم انفصاماً في شخصيتها بين هرولتها وراء الولايات المتحدة ومصلحتها مع الاتحاد الأوروبي. لقد صدق الجنرال شارل ديغول حين اعتبر بريطانيا ولاية أميركيَّة في القارة الأوروبيَّة!!