أحمد البحراني: دافعيَّة غياب المعنى وقصديَّة حضور الشكل

ثقافة 2023/05/21
...

   د. أحمد جمعة البهادلي 


قدم البحراني منذ أيام قليلة تجربته الجديدة في السطح التصوري، وقد أعادتنا هذه لتجربته الماضية في الاشتغال بالصفائح المعدنية وتركيبها بتقنية اللحام، غير أن قصدية انتاج الشكل المجرد تمثل عنده وبشكل متفرد نوعاً من العفوية الشخصية، أو الحرية في الأداء. وهذا المفهوم قد غاب كثيراً من المشهدين العربي والعراقي، وإذا كانت هناك مشكلة حقيقية في المجال الإبداعي العربي والعراقي، فإنها تتمثل في رسم أو تشخيص الهوية الإبداعية في المنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل 

خاص. 

إنَّ المدخل الحقيقي لفهم التجربة الجمالية والتجريب الجمالي ذاته لا يمكن أن يكون بلا ممارسة نقدية، وربما كانت الصورة مشوهة قبل أعوام من الآن، لكن الحدث المهم في ذات التجربة الجمالية يكمن في غياب النقد والثقافة النقدية الجمالية، إذ لم يستطع أن يفك شفرات الكثير من التجارب الفنية، رغم اتساع رقعة الدراسات الجمالية تحديدا في الأوساط الاكاديمية استطعنا نوعا ما تشخيص هذه المشكلة، أضف لها مشكلة الصراع بين الهوية وحضورها أو غيابها، فالتجربة الجمالية بشكل عام وإزاء ما يجري في العالم من تقدم تقني أسست له حضارة الطيف الموجي عبر المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي والساتلايت والانترنت والـ (واي فاي) و(البلوتوث) تكون -التجربة الجمالية- قد تخلت عن كثير من صراعاتها النظرية بعد أن ذابت في بوتقة العالم الجديد الكثير من الأيديولوجيات التي تنمط الأداء وتحاول تفسيره.

لقد غابت هذه الشخصية التي تفكر بذاتها في نسق ماضوي ولم تعد في أصل التجربة ثمة مرجعيات يمكن تحفيز وجودها مرة أخرى داخل المشهد البصري، بل تحول المتن الى هامش كما تحول الهامش إلى متن، وسط متوالية لا عدديَّة ولا حصر لها من الصور والأشكال والمواد والخامات والتقنيات، كل شيء يأتي بشكل متسارع ويعبر حدود المكان والزمان كالبرق في نسق التداول، بل ولعل الفعل النقدي ازاء ما يجري من تجارب جمالية في آفاق هذا العالم قد مر في حالة من التشويش وعدم السيطرة على ملاحقة كامل التجربة الإبداعية العالمية وفهم مآلاتها وفحصها فحصا أكاديميا، ومع ذلك فإن الفعل الإبداعي يستطيع أن يحول مراكز القوى المعرفية لصالحه دوما، فهو متجاوز لليومي وعابر للنمطي، لانه يحاول دائما تأسيس مشروع ثقافي ويكشف عن تحولات كبيرة في نسق الخطاب.

بشكل أو بآخر فإن النار المحرقة لا يمكن ضمها بين اليدين طويلا، وكي تبقى متقدة لا بد من فسحة لتستمر في وهجها، هكذا هو الفن يحتاج دوما الى مقومات تمكنه من فعل الديمومة، ومشروع الجمال المعاصر ديمومته في مغادرة تلك القواعد الموضوعية التي تفترض حضور البطل والحكاية الدراماتيكية وتفعيل كل قواعد التشكيل من النسب والعناية بها والتشريح العضلي وتحقيقه وسطح التكوين ومعالجة الكتلة وغير ذلك مما يرتبط بصياغة الجمال البصري، والثقافة الراهنة بتخليها هذا، تمكنت من أن تؤسس حراكا جماليا جديدا، وأصبح يسيرا الاحتفاظ بجذوة بروميثيوس الأسطورية المتقدة فالظاهرة الجمالية اليوم لم تعد موضوعا للنقد، بعد أن غاب الموضوع فيها.

يقدم البحراني في تجربة جمالية معاصرة ما يدعو للمغايرة والتجديد، فالفن حينما يبتعد عن العلامة والتشبيه والنصوص البصرية الواضحة او المحاكاتية، فإنه يكتسب صفة شمولية، او يتحول الى لغة كلية، فإن قانون الإبداع الجمالي يتأرجح دوما بين المحاكاة وعدمها، ولا بد من غلبة لإحدى النظريتين: فإما نظرية الفن للمجتمع أو نظرية الفن للفن.

لقد حاول البحراني الانتصار للفن، بمحاولة جادة لإزاحة الموضوع، وتقديم أعماله بنسق لا موضوعي، فالأعمال الحديدية بأشكالها المجردة وتركيبتها العفوية تنسجم مع قصدية الإبلاغ عن المجرد، بوصفه خلاصة عقلية، ومقولة مخاض طويل من التأمل، إذ يقوم العمل في نظامه الشكلي على نمط من التداخل لإقصاء المعنى، إذ لا يمكن لمحمول مفقود الإشارة لمضمون مشخص. وحين تكون التقنية فعلا لإظهار ما لا يمكن إظهاره كالشكل المجرد، أو لنتفق مع بول كلي في نظرية اللا شكل، فإن النحات هنا كان واعياً جداً حين استعمل تقنية القص والقطع واللحام وغير ذلك، إنه يستعمل مفردات عصره لإنتاج تراكيب بصرية جديدة.. سعيه التقني دعاه لاستعمال مادة الحديد إذ قام بتطويعها بخبرته لترسيخ غاياته ودافعه في إقصاء الفعل الحكائي، لانه يريد للفن أن ينتصر على حساب الموضوع ما دام المعنى غير ممكن إلا بنحو من التأويل، إنه يعمل بنسق منفتح نحو التفضيل الجمالي، ولا يبغي تكرار نمذجة الشكل او مثاله الافلاطوني، ويحاول أن يقترب من جمالية الشكل الهندسي اللامنتظم من خزينه المعرفي لفرض شروطه البصرية على وعي المتلقي.

إنَّ المحرك الجمالي للشكل المجرد في هذه التجربة قد دفع الفنان لإعادة تكويناتها مرة أخرى في أعمال جديدة، لكنه هذه المرة يستعمل السطوح التصويريَّة بدلا عن الحديد والكتل المجسمة، وهذا يعني أن فكرة ثانية يريد البحراني التأكيد عليها في ذات الدافعية التي تؤكد رفعة وسمو الشكل المجرد، تفاعل السطح بين الأبيض والأسود وبين الأداء الانفعالي الحر لعودة ذات الخطاب مرة أخرى في تصوير ما لا يمكن تصويره.

إنَّ تجربة النحَّات المتجدد أحمد البحراني تجربة فريدة وهي عالمية بعد أن حاول مرارا أن يكشف أنساق الذات الإبداعيَّة لتقديمها بنحو ديكارتي، فهو يفكر في الأشياء كما لو أنها تنتمي لفعله الذاتي ورؤيته الذاتية، وهنا يمكن القول بأن البحراني كان ذاتياً بامتياز. وفي سياق المشكلة المعاصرة لهوية الفن العربي والعراقي المعاصرين، فإننا نعتقد بأن الجدل المعرفي لهذه المشكلة ستبقى أطراف الحوار فيه حاضرة وسنبقى نحن بأمس الحاجة لتأكيد هويتنا الإبداعية، لذلك فإن البحراني حين يعمل وآخرون في المشهد الثقافي والجمالي فإنَّ هذا سيعزز من تشخيص الهوية حتما، ونأمل أن يعود الخطاب النقدي فاحصاً ومتقداً لتحقيب وتصنيف الأداء على وفق رؤية منهجيَّة 

وعلميَّة.