الفلسفة خلف قضبان الأكاديميات

ثقافة 2023/05/23
...

 حازم رعد 

ترى هل أثرت الاكاديميات “ولغتها ومنهجيتها” سلباً على انتشار الأفكار الفلسفية، وهل انعكس ذلك بشكل سلبي على المجتمع. هنالك تحديات عديدة أدت إلى عزل الفلسفة عن المجتمع، لعل على رأسها صعوبة اللغة وقوة المفاهيم التي يتكلم بها الفلاسفة “فإن كلمات الفلسفة لغة الأقوياء وأكيداً هي تتمنع على فاهمة العامة” والدرس الفلسفي من أوله حتى الآن جاء مجاراة لتلك اللغة بالتحليل والتفكيك والنقد واعادة الصياغات والتركيب، وكل ذلك يعد حائلا أمام فهم الفلسفة والانسجام معها.

كذلك عدم الاتفاق على منهج وتعريف وموضوع واحد للفلسفة وغيرها من التحديات، وكان منها “حبسها خلف اسوار الاكاديميات” حيث جعلت الفلسفة بمعزل عن الفضاء الاجتماعي العام وجعلتها أكثر خصوصية “نخبوية” فعلى أثر ذلك انحسرت الأفكار الفلسفية عن الانتشار والتسرب إلى المنظومة الاجتماعية واستشراء الوهم والتحيّز والتطرّف، فالمعادلة واضحة “غياب الفلسفة يقابله ظهور الفكر المأزوم”.

وهذا التحدي مع ما هو مسطور أعلاه من عوامل أخرى شكلت رهاناً للفلسفة في اثبات قدرتها على تجاوزه وايجاد بدائل تجسر تلك الهوة وتقارب مسافات الفلسفة والناس، فالملاحظ أن غياب الفلسفة عن مسرح الحياة والاحداث الاجتماعية، يقابله انتشار الجهل وتسرب التطرف إليها وذيوع التحيزات، فلو قُيضَ للفلسفة أن تزدهر وتنتشر في فضاء اجتماعي معين لقلَّت كثير من العصبيات وموجات التطرف، أفكار الفلسفة تفعل في الواقع كما تعمل الآلات الكبيرة المستعملة في تجريف الأراضي، ولكن هنا ازاء الافكار الموبوءة والجامدة والمنغلقة. 

من ذلك كله أعتقد جيل دلوز أن الفلسفة لم تنتهِ وهي تعيش صراعا كبيرا من أجل افادة ذاتها بالحياة، واعادة التموضع في مناطق تعتقد أن لها الامكانية على شغلها، ولكنها تتعرض لمجموعة من محاولات للاغتيال جاءت أولها على يد رجال الدين الذي نصبوا العداء للفلسفة، واعتبروها زيفاً وضلالة وممارستها زندقة، وكيل هذه الاتهامات وما شابهها توجه إلى الفلسفة لغرض تعويقها وتعطيل عملها.  

ويرى أنَّ المحاولة الثانية لاغتيال الفلسفة جاءت هذه المرة من العلم الذي كان جزءاً من الفلسفة ووليدا لها، فبعد انفصاله عنها واعلان استقلاله وجه إليها ضربة قوية موجعة، حيث قدم العلم نفسه على أنه مصدر اليقين المعرفي الوحيد واحتكر الحقيقة لنفسه من دون سواه.

وتكللت محاولات الاغتيال تلك برأي جيل دلوز في تسييج الفلسفة بأسوار الاكاديميات مما هزلها عن الواقع المعيش ومعاينة مشكلاته والنظر فيها ومحاولة البحث عن حلول لتلك المشكلات فنجم عن ذلك بروز طبقتين الأولى نخبويّة وهي أكثريّة الاكاديميين الذين لا يعتنون بالواقع ولا يعيرونه تلك الأهمية وينعزلون على انفسهم ومتعلقاتهم وجل اهتماماتهم جودة عملهم الوظيفي والحصول على ترقيات في الاكاديميات وتحقيق وفرة مالية. والطبقة الأخرى هي المجتمع بعامته، حيث حين انقطعت عنه دفقات الأفكار الفلسفية وانحسارها بين تلك الطبقة عرضها للتهميش ودب الخلل في طريقة التفكير خاصتها، وصارت مع ذلك امكانية لاستغلال هذه الطبقة وتوظيفها من قبل النفوس الضعيفة واصحاب الدسائس والغايات المخلة، وكذلك استعمالها من قبل السلطة “المختلفة المنتشرة في الواقع” والتي تنتهز الفرصة في أي ثغرة لتحريك الشارع والمجتمع “وهو لا يفكر بطريقة صحيحة” لتحقيق اهداف ومآرب سلطوية وجهوية ومصلحية كل ذلك بسبب ذلك الانعزال عن الواقع والذي حصل بسبب ابتعاد الفلسفة وانحسار الأفكار الفلسفية من الانتشار في الواقع.

وفي الوقت الذي نؤكد فيه على ضرورة انعاش الواقع بالأفكار الفلسفية والضخ فيه بأكبر قدر منها حتى تنتشر العقلانية والافكار المقبولة للسيطرة على الجو العام وحسر الأفكار المتطرفة والمنحازة نؤكد ضرورة انفتاح طبقة الاكاديميين، وبخاصة “المتفلسفة” منهم لأن ذلك الأمر يعنيهم قبل غيرهم، فالفلسفة بوصفها حكمة تنشر الافكار الراشدة والممارسات المناسبة التي تعمل على تحقيق أكبر قدر من الانسجام بين الوعي والعالم وبين فاعلية ونشاط الأفراد وبين الأفكار الحقيقية الصحيحة، ومن يقوم على ذلك هم النخب الفلسفية، وهذا واجبهم ومسؤوليتهم الاخلاقية قبل أن تكون من صميم عملهم في بذل المعرفة والعلم.

ويلزم لأجل فك الفلسفة من هذا الأسر داخل “قضبان الاكاديميات” وكسر تلك القيود والاصفاد، إلى تفهم واقع الفلسفة في أنها بحث مستمر عن الحقيقة وكشف للواقع، فإن هذا البحث والكشف مؤداهما النظر في مكانة الإنسان في هذا العالم وتحديد أولوياته والزاوية التي من خلالها ينظر إليه والطريقة التي يباشر فيها الحياة، ومن ثم اعداد قوالب ومفاهيم ونظم من خلالها تتم ممارسة الواقع، ولا يتم ذلك إلا من خلال الانطلاق في الواقع وتشخيص مشكلاته واستكناه ما يعاني منه ذلك الواقع من هموم ومعاناة، ولا يتم ذلك والفلسفة حبيسة أسوار الاكاديميات. 

بمعنى أن يأخذ صفوتها وأساتذتها على عاتقهم مسؤولية النزول إلى الشارع حيث بدأت الفلسفة “شعبية” من حيث انطلقت من الأسواق والساحات والدكاكين والمجالس العامة والتقاليد والمعتقدات وتكوين رؤية شاملة عن كل ذلك، ومن ثم صناعة التراكيب اللازمة من الحلول والمعالجات وصياغة المفاهيم التي تؤطر واقعها وتشير

إليه.