أثر البيئة في السمات الأسلوبيَّة للشعراء

ثقافة 2023/05/23
...

  أحمد الشطري 

لكل شاعر أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، وهذا التميز لا ينحصر في القاموس المفرداتي أو التركيبي لنتاج الشاعر فحسب، وإن كان في ذلك التجلي الأوضح للأسلوب البنائي لنصوصه، بيد أن هناك ما هو أعمق وأخفى من طبيعة ذلك البناء، وهذا الأثر الخفي الثاوي في العمق قد يصبح ظاهرة أو ظلا مهيمنا ومميزا لمجموع الشعراء المنتمين لتلك البيئة.

ويبدو أن أثر البيئة على أسلوب الشاعر لم يكن خافيا على نظر المهتمين بالشأن الأدبي من القدماء، فألمحوا لذلك في رواية تناقلتها كتبهم تدلل على ذلك الوعي لهذا الأثر، وسواء صحت الرواية أم لم تصح إلا أن ما يعنينا هو ما وراءها من تلميح يشي بأنهم قد تفطنوا للأثر الذي تتركه البيئة على أسلوب الشاعر.

وتقول الرواية أن الشاعر علي بن الجهم في أول وفوده إلى بغداد، قال مخاطبا الخليفة ببيتيه الشهيرين:

 أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدِّ/ 

وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ

أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلواً/     

مِن كِبارِ الدِلا كَثيرَ الذَنوبِ

فاستهجن الحاضرون هذا الخطاب، فما كان من الخليفة إلا أن أمر أن يسكنه في قصر على نهر دجلة، وبعد مدة من الزمن استدعاه، فأنشده علي بن الجهم قصيدته المشهورة:

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ/ 

جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

 ولا يخفى الفرق ما بين هذه الأبيات من حيث الأسلوب وبين الأبيات الأولى. وهو ما ألمحوا به إلى اثر البيئة الفاعل في أسلوب الشاعر وطريقة تعامله مع موضوعاته وطبيعة مفرداته التي تنسجم مع الأجواء المحيطة به.

ويبدو أن تقسيم الأدب العربي عموما أو الشعر خصوصا إلى مراحل مختلفة، تبعا لطبيعة الحكم السياسي، كان بملاحظ آثار التغير التي طرأت على أساليب الشعراء، فسمي ما قبل الإسلام بالشعر الجاهلي ثم صدر الإسلام ثم الأموي والعباسي الأول والمتأخر والأندلسي والفترة المظلمة وهكذا.. وسواء كان ذلك عن وعي بأثر البيئة أم عدمه، فإننا نجد أن هذه الانتقالات السياسية وبفعل تأثيرها في البيئة الاجتماعية كان لها أثر واضح في البنية الأسلوبية لقصائد الشعراء ظاهرة أم مضمرة، بغض النظر عن الميزات الخاصة في أسلوب كل شاعر.

وفضلا عما استجد من مفردات وموضوعات في شعر الإسلاميين مقارنة بشعراء العصر الجاهلي، إذ يمكن أن نجد أن ثمة اختلافا مع طبيعة التعامل مع الموضوعات لغة ومعالجة. كما يمكن أن نلاحظ وبوضوح نوعا من الفروقات بين الشعر الأموي والعباسي من جهة وبين شعر الشعراء الشرقيين والأندلسيين من جهة أخرى، ففضلا عن الفروقات الأسلوبية في بناء القصيدة من حيث التراكيب البلاغية والمفرداتية والموضاعتية، وحتى العروضية، ثمة فروقات في البنية العميقة للقصائد ربما كان أحد تمثلاتها الأثر الواضح للحياة المدنية، وتسرب سمات الرقة ورهافة الخطاب بشكل جلي مهما كانت طبيعة الموضوع المعالج في القصيدة. 

ولعل هذا الأمر يظهر بوضوح كبير في الشعر الأندلسي، بينما يبدو خفيا نوعا ما لدى الشعراء (الشرقيين) وإن كان هناك تجل واضح له في العصر العباسي.

وربما كان للشعراء الموالي (الذين لم تكن جذورهم عربية) على الأخص، وتفشي مجالس الغناء والطرب الذي كانت تقدمه (القيان) أثر في بروز هذا في السمات الأسلوبيّة لدى الشعراء العباسيين.

وكنتيجة لتلك التغيرات الاجتماعية والبيئية ومتطلبات الحياة الجديدة، وجد الشعراء أنفسهم ملزمين بتغيير سمات الخطاب الشعري وأساليبه، بل وتقنيات القصيدة أيضا، فانقلبوا على محددات العمود الشعري، بدءا من الثورة على المقدمة الطلليَّة وانتهاء بكسر قاعدة السيمترية العروضية ونظام القافية الواحدة، فجاءت الموشحات والمزدوجات والدوبيت والمخمّسات والمسمّطات، لتنسجم مع متطلبات البيئة الجديدة، بمختلف تغيراتها، ولكي يواكب الشعر مسيرة التطور الحياتي، وينسجم مع طبيعة الاهتمامات المتغيرة لدى المتلقي.

ولعل من بين أكثر الصور وضوحا لتأثيرات البيئة على البناء الأسلوبي للشعراء ما يمكن أن نلمسه من فروقات بين أسلوب الشعراء الشاميين والشعراء العراقيين في القرن العشرين على سبيل المثال، إذ نلحظ أن قصائد الشعراء الشاميين ذات أسلوب يقرب من الهمس والرقة والوداعة والغنائية وكأن رائحة الطبيعة الخضراء والبحر بمساحته الشاسعة تلقي بظلالها على المفردات والجمل، كما في شعر (بدوي الجبل والأخطل الصغير -بشارة الخوري- وسليم رشيد الخوري وإيليا أبي ماضي وعمر أبي ريشة ونزار قباني وغيرهم)  بينما نجد سمة الخطاب في الشعر العراقي يتسم بالحِدّة وتختفي خلفه نبرة الخشونة والصلابة حتى في مواضيع الغزل، وكأن صلابة النخل والقصب والجفاف وضيق أفق الأنهار مقارنة بسعة البحار قد ألقت بظلالها على مضمرات ذلك الخطاب. مثلما نلمسه في شعر(الرصافي والزهاوي والجواهري والشبيبي وعبد الرزاق عبد الواحد) وليس القصد من هذه السمات التي ذكرناها إشارة لمثلبة أو منقبة لطرف على الطرف الثاني، وإنما هي سمات لها جمالياتها التي تترك أثرها الجاذب في نفس المتلقي. 

ولا بد من الملاحظة أن رؤيتنا وحديثنا اختص بالشعر العمودي، ولتلك الفترات الزمنية التي أشرنا لها، ولا يشمل الشعر المعاصر بأشكاله المختلفة، ففي ذلك بحث آخر.