تأثير الأقنعة الأفريقيَّة في الفن الحديث

ثقافة 2023/05/24
...

بايلي ريان 


ترجمة: مي اسماعيل


كان للأقنعة الأفريقيَّة تأثير عالي الأهميَّة في الفن الحديث؛ إذ لم تكن نتاجات الثقافات الأفريقيَّة المتنوعة مجرد قطعٍ جميلة التزيين؛ بل حملت معاني روحيَّة عديدة. تمثل تلك الإبداعات المثيرة للفضول منحوتاتٍ معقدة وأشكالاً مبالغاً فيها، ورموزاً تحملُ الكثيرَ من ثقل ثقافات مختلف مناطق أفريقيا. جرى اقتباس الصفات الأسلوبيَّة والتقنيَّة للأقنعة الأفريقيَّة وتطبيقها على أعمالٍ فنيَّة في جميع أنحاء العالم الغربي. ومن الواقعي القول إنه بدون القطع التي أبدعتها إفريقيا؛ كان تاريخ الفن الغربي سيبدو مختلفاً تماماً.

شكلٌ مبكرٌ من التجريد

هناك حقبة في تاريخ الفن الغربي كانت خلالها مفاهيم النسب الدقيقة والواقعيَّة والتشريح الصحيح نقاطاً ذات أهميَّة قصوى؛ لكنَّ الثقافات الأفريقيَّة التي اتخذها العديد من الفنانين المعاصرين إلهاماً لهم كانت تقدُر مُثلا مختلفة. تُظهِر أنماط الأقنعة الأفريقيَّة اهتماماً بملامح الوجه المُبالغ بها؛ وقد خلقت تلك المبالغة نوعاً من النسخة السرياليَّة أو التجريديَّة لِما قد يبدو عليه الوجه البشري. وتركز المناطق المختلفة من إفريقيا على أنواع مختلفة من التحريفات التي تحمل معاني مختلفة. فعلى سبيل المثال تمثل أقنعة “بيو- Pwo” لشعب “تشوكوي-Chokwe” هبة الخصوبة والإثمار. ورغم أنَّ الرجال هم الذين يرتدوها؛ فإنَّ الملامح الملتويَّة (مثل العيون المنتفخة) تمثل ألم المرأة خلال عمليَّة الولادة والفرح المطلق الذي جلبته. ومع ذلك فإنَّ التجريد الذي قدمته هذه الأقنعة كانت له أهميَّة، وجاء مصحوباً بقائمة طويلة من التقاليد التي التزم بها. أما الفنانون المعاصرون الذين استلهموا من الأقنعة الأفريقيَّة فقد استخدموا الصفات الأسلوبيَّة لها، دون مكوناتها الرمزيَّة.

لذا سافر التواء الملامح البشريَّة كما ظهر في الأقنعة الأفريقيَّة من أفريقيا الى أوروبا؛ إذ تبنى الفنانون الجانب الجمالي لكنهم رفضوا الأهميَّة الروحيَّة التي حملتها القطع أصلاً. استخدم فنانون مثل “أماديو موديلياني” العناصر الشكليَّة للأقنعة؛ مثل الأنوف الرفيعة الممدودة والعيون الفارغة المنكمشة. كانت الأقنعة التي استلهم منها موديلياني من سمات ثقافة شعب “فانغ”، وعلى الأخص منهم أعضاء “نجيل” الذين عملوا قضاة ومنفذين للقانون. لكنَّ رمزيتها الأصليَّة وأهميتها السياسيَّة لا تتضح لنا حينما ننظر الى عملٍ فني حديث.

التقاليد الأفريقيَّة: فنٌ يُجسد الرموز

لا تقتصر الأقنعة الأفريقيَّة على كونها متميزة من وجهة النظر الشكليَّة؛ بل لأنها تحمل أيضاً وزناً كبيراً من التقاليد الروحيَّة. لم يأخذ الكثير من الفنانين هذا الجانب بعين الاعتبار حينما أنتجوا فنونهم؛ لكنَّ بعضهم فقط استوعب أهميَّة الأقنعة كرموزٍ ثقافيَّة أيضاً. لطالما كانت الأقنعة جزءاً لا يتجزأ من الثقافات الأفريقيَّة على تنوع مواقعها الجغرافيَّة. استخدم شعب “نجيل-Ngil”  الأقنعة كشكلٍ من أشكال التخويف عند تطبيق القانون، بينما سعت الثقافات الأخرى إلى توجيه الأرواح خلال الاحتفالات والمناسبات التقليديَّة. وفي أغلب الحالات يرمز القناع الى القوة والترابط الروحي والصفات المختلفة للآلهة التي تُمنح لأحد أفراد القبيلة. لذا لم تكن الأقنعة جانباً معقداً ومصمماً بدقة من الثقافة فحسب؛ بل كجزءٍ أساسي من الأداء. وكان من المهم أيضاً استخدام الأقنعة لتوجيه الآلهة المتعددة لتمنح الناس ازدهاراً متنوعاً.

استفاد بعض الفنانين من هذا المنظور؛ فعلى سبيل المثال سعى الفنان الكوبي “ويلفريدو لام” للحفاظ على الثقافة الأفريقيَّة مع استكشاف هويته الذاتيَّة. ولكونه فناناً ذا أصولٍ مختلطة (كوبيَّة وصينيَّة وكونغوليَّة) كان مهتماً بتحديد جذوره عن كثب والحفاظ على القيم الثقافيَّة. رسم لام (باستخدام الخصائص الجماليَّة للتكعيبيَّة) القناع الأفريقي من زوايا متعددة على ذات مستوى اللوحة بينما كان يُعيد تقديم تقاليد أجداده. بينما قدم فنانون آخرون القناع توافقاً مع الاضطرابات الثقافيَّة في العالم الغربي؛ وعلى الأخص من خلال فن نهضة “هارلم”.

ترسيخ الفن الأفريقي في أميركا

تُعرف إحدى أهم الحركات الثقافيَّة في تاريخ الفن الأميركي باسم “نهضة هارلم”، ظهرت تزامناً مع قوانين “جيم كرو” (= قوانين تطالب بالفصل بين الأعراق في الأماكن العامة، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر. المترجمة). هنا بات من المهم (أكثر من أي وقتٍ مضى) على الفنانين من أصولٍ أفريقيَّة أنْ يعرضوا الثقافة التي أتوا منها.. تحالف الفنانون الأميركان من أصولٍ أفريقيَّة: موسيقون وشعراء ورسامون واجتمعوا لتوطيد ثقافتهم وتقاليدهم وعرضها والتعبير عنها من دون اعتذار.. فسعى فنانون مثل “جاكوب لورانس” و”آرون دوغلاس” لنقل نضالات تجربتهم الأميركيَّة وإحياء التقاليد القديمة للفن الأفريقي. بدأ فنانو تجمُّع “نهضة هارلم” بدمج نواحٍ متعددة من الثقافة الأفريقيَّة ضمن أعمالهم، من خلال الأنماط وخيارات الألوان والزخارف الشعبيَّة. وكانت الأقنعة الأفريقيَّة إضافة مؤثرة أخرى وجزءاً من أيقونيَّة فنونهم؛ هنا تُذكر الفنانة “لويز مايلو جونز” التي استخدمت الأقنعة الأفريقيَّة لتكون جزءاً لا يتجزأ من أعمالها. ورغم أنَّها لم تختبر التمييز العنصري بشدة قدر ما تعرض له آخرون؛ فقد بذلت جهدها للبقاء خارج الأضواء. وحينما سُئلت عن تأثير الأنماط الأفريقيَّة في أعمالها الفنيَّة أجابت: “إذا كان باستطاعة الأساتذة مثل “ماتيس” وبيكاسو” أنْ يستخدموها؛ أفلا تظن أنَّ عليَّ أنا أيضاً أنْ أفعل؟”.

التكنيك: إعادة تخيُّل القناع

جرى تضمين الأقنعة الأفريقيَّة لتكون بشكل كبير جزءاً من الأيقونيَّة في أعمال ثنائيَّة الأبعاد؛ لكنَّ النحاتين استخدموها أيضاً مصدراً للإلهام ثلاثي الأبعاد. يفهم الكثير من الناس الرمزيَّة التي تحملها الأقنعة في الثقافة الأفريقيَّة؛ إذ جرى استخدامها لتوزيع الوظائف والأداء في الاحتفالات وتوجيه الأرواح (ذات الأنواع المعينة!). وقد أخذ بعض الفنانين المعاصرين هذا النوع من الاستخدام وطبقوه على الثقافة الغربيَّة.. نستخدم الأقنعة يومياً في مجتمعنا لأسبابٍ مختلفة؛ على سبيل المثال: للأطباء والممرضات ورجال الإطفاء وغيرهم. يُنتج الفنان الأميركي “لوني هولي” أعماله الفنيَّة تعليقاً على ملاءمة الأقنعة لمجتمع اليوم وأقرانها بالتجربة الأفرو- أميركيَّة. في إحدى منحوتاته باسم “القناع الأفريقي” يشير استخدامه لقناع عمال اللحام الى دخول الرجال الأميركان من أصل أفريقي المجال الصناعي من خلال وظائف منخفضة الدخل وقليلة التقدير. وعلى النقيض تنظر الثقافة الأفريقيَّة الى العمال (خاصة الذين يطرقون المعادن) بمنظورٍ أفضل بكثير. ولهذا السبب تمكن هولي من تحويل قناع المجتمع الأمريكي هذا إلى صورة متسامية واحتفاليَّة تدعو للإعجاب. وهذا يتحدث أيضاً عن أهميَّة العمال في الثقافة الأميركيَّة؛ هم الذين غالباً ما يجري تجاهلهم في حين أنهم ضرورة قصوى للاقتصاد.


الفنانون المعاصرون

 وتكريم الأقنعة الأفريقيَّة

طوال تاريخ الفن الحديث استخدم الفنانون الأقنعة الأفريقيَّة كمصدر إلهامٍ لهم لأسباب عديدة.. أدخل فنانو العقد الأول من القرن العشرين ملامح الوجه التجريديَّة للأقنعة في أعمالهم، بينما وظف فنانو العشرينيات القناع كأسلوبٍ لتأسيس ثقافة فرعيَّة جديدة للأميركيين عبر حركة “نهضة هارلم”. واستلهم الفنانون الحداثيون أيضاً من الأقنعة الافريقيَّة، مثل “جان ميشيل باسكيات”؛ وهو فنانٌ معروفٌ بخياراته اللونيَّة المتضاربة والايقونيات المحيّرة ودمج الكلمات في أعماله للتأكيد على أفكاره. يكشف النظر الى أعماله تأثره الواضح واستلهامه من فن أفريقيا القديم؛ بالحفاظ على روحيَّة الفن البدائي وإضافة توهج حديث.


موقع “ذا كولليكتور”