لطفية الدليمي: منحتني الكتابة شرف عيش الحياة ببطولة وزهد

ثقافة 2023/05/24
...

بغداد: نوارة محمد 


ارتبط اسم لطفية الدليمي بالكثير من التعريفات فهي كاتبة ومترجمة وصحفية بارعة، وواحدة ممن انشغلن منذ ثمانينيات القرن الماضي في الدفاع عن حقوق المرأة، وفضلاً عن هذا وذاك تحتل لطفية الدليمي مكانة عالية في تاريخ السرد العراقي وهي علامة فارقة سواء في القصة القصيرة أو الرواية وقد نالت كتاباتها الأدبيَّة اهتماماً نقدياً واسعاً جعلها تتصدر المشهد الإبداعي العراقي.

لطفية الدليمي لها مكانتها الواضحة في الفن الروائي المعاصر، فهي من “سيدات زحل” إلى “عشاق وفونوغراف وأزمنة” ملتزمة باقتباساتها وبثراء أعمالها المعرفيَّة، معبرة عن هموم النسويَّة، لكنها من جانبٍ آخر تظهر لنا كونيَّة وعجائبيَّة، وهذا المسار يجعلها لا تعتمد السياق الواحد، وإنما البنى المتشظية وهي تميل لجعل الرواية نصَّاً معرفياً.


وترى الروائيَّة والمترجمة لطفية الدليمي أنَّ “أحادية السياق في الكتابة الروائيَّة هي إحالة مباشرة وتذكرة فوريَّة بعصر بداية الكتابة الروائيَّة في العراق”. وتضيف “هنالك سياقات متعددة وأكاد أقول أنساقاً متعددة في الكتابة الروائيَّة الحديثة التي انبثقت في حقبة ما بعد الرواية الحداثيَّة، ومن تلك الأنساق – بل وفي مقدمتها - التراكيب الزمنية اللاخطية والتداخلات المكثفة في الزمان والمكان بما قد يشي بنمط من التشظية القصديَّة للعمل الروائي”.

وتؤكد “لم تعد الرواية كتلة صلدة من الحقائق أو الأفكار أو التوصيفات الراكزة في حيزٍ محددٍ من الزمان والمكان بل صارت السيولة والانزياحات المستمرة هي الستراتيجية المعتمدة. هذا أمرٌ تلازم بالتأكيد مع التطوّرات الثورية في العلم والتقنية وضرورة تدريب العقل البشري على معايشة فكر التغيّر الحثيث والزحزحات المستديمة. الرواية في نهاية الأمر ليست جسماً غريباً عن هذا العالم؛ بل هي إحدى الوسائل العضويَّة لعكس رؤيتنا عن هذا العالم في محاولة فهمه بكيفية تبعث – قدر الاستطاعة وكلّما أمكن هذا - على النشوة والإمتاع”.

حققت الدليمي التي ولدت في العام ١٩٣٩ وحصلت على بكالوريوس الأدب في اللغة العربيَّة، علامة بارزة في مسارها القصصي وهو مسارٌ اندمج مع تجارب عراقيَّة عدة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، تفسر صاحبة “موسيقى صوفية “ هذا التوجه في القصة العراقيَّة بالقول “ربما تكون محطّة التصوّف إحدى المحطّات الرئيسة في حياة الإنسان الذي يسعى لأنْ يعيش تجربة خلاقة؛ لذا نرى أنّ كثرة من العراقيين والعرب وكلّ مبدعي العالم التمسوا في التصوّف نمطاً من رؤية شخصانيَّة للتعامل مع المعضلة الإشكاليَّة للوجود البشري. أظنُّ أنّ التصوّف كان ذا قيمة أعظم عند العراقيين لأنه تجاوز شخصانيَّة التجربة الفرديَّة نحو محاولة تطمين النفس في ملاذات حمائيَّة من بطش وتغوّل السلطات على اختلاف أشكالها ومسمّياتها. هنا يجب ألا ننسى حقيقة أنّ متصوّفتنا الأكابر كانوا علامات مشرقة في طريق دقّ ركائز إنقاذ النزعة الإنسانيَّة في الدين من تغوّل وسطوة تسييس الدين وجعله ميدان سياسات لعوب تسعى وراء مصالح دنيويَّة جشعة. اليوم صار التصوف أقرب لإعلانات سياحيَّة عابرة وفقد وهجه الفرداني الناجم عن معايشةٍ شخصيَّةٍ حقيقيَّة. بات التصوف أقرب لدينٍ جمعي عائمٍ أو جماعة تحزبيَّة مثل جماعات الفيسبوك”.

تجد لطفية الدليمي أنَّ قراءتها للآداب العالميَّة بلغتها الأصليَّة كان له أثرٌ في بلورة مفاهيم الكتابة القصصيَّة والروائيَّة لديها وإنَّ اللغات التي تجيدها هي عينٌ ترى بها العالم وتصف ذلك بقولها “كتبتُ غير مرّة أنّ كلّ لغة نتعلّمها هي عين إضافيَّة نرى بها العالم، وعندما نرى العالم بزوايا مختلفة فكأنَّنا صرنا مخلوقات جديدة تتمايز عن تلك التي كنّا عليها. عندما أقارنُ رؤيتي لكلّ تفاصيل الحياة والمهنة الكتابيَّة مع رؤيتي التي كانت لي قبل أنْ أقرأ بتكثيف في الأعمال المكتوبة بالانكليزيَّة لأستطيع أنْ أقدّر – بموضوعيَّة معقولة – حجم الانكفاء المعرفي وتواضع وسائلي اللغويَّة والتعبيريَّة والتقنيَّة جنباً إلى جنبٍ مع قدرات التفكير النقدي والمساءلة الفلسفيَّة والتشخيص الفكري. أنا مدينة لتلك الانعطافة الكبرى في حياتي التي مكّنتني من تعلّم الانكليزيَّة، وأحزن في الوقت ذاته لأنني لم أتعلّم لغات إضافيَّة (الفرنسيَّة والاسبانيَّة). تعلّم اللغات فضلاً عن مناقبه الجميلة في الارتقاء بوسائلنا المعرفيَّة والتقنية فإنَّه يعلّمنا فضيلة التواضع والجد والمثابرة والابتعاد عن التمركز حول الذات والتصوّر الموهوم عن حدود إمكانياتنا الحقيقيَّة التي لم نختبرها اختباراً حقيقياً.

الدليمي صاحبة أهم وأشهر القصص التي ترجمت للغات عالميَّة هي واحدة ممن كتبوا القصة بلغة شعريَّة لكنها تحولت الى الرواية رغم الإنجاز القصصي الكبير والمؤثر، وعن هذا تُشير الدليمي “الرواية هي (كتاب الحياة المشرق) كما يصفها دي. إج. لورنس. أنا أراها هكذا حيث هي منجمٌ لا ينضب من الإمكانيات المنفتحة على كلّ جديدٍ وجميلٍ وغير مستكشف. أراني لم أتحوّلْ من القصة القصيرة إلى الرواية؛ بل كنتُ كائناً روائياً منذ شروعي في صنعتي الكتابيَّة. أظنُّ أنّ شهيتي لكتابة القصة القصيرة قد خفتت لأنّ طبيعة الحياة ومتغيراتها المتسارعة في العراق والعالم لم تعُدْ تتناغم مع الطبيعة الاختزاليَّة وضغط الخبرات والرؤى في حيّزٍ صغيرٍ متاحٍ للقصة القصيرة؛ بل وحتى لغتي تبدّلت بعض الشيء تماهياً مع متطلّبات واقع جديد”. وتذهب صاحبة رواية “مشروع أومّا” الى القول عن الفكرة الأساسيَّة لروايتها الأخيرة “صدرت روايتي (مشروع أومّا) قبل عامين بالتقريب، وهي تنتمي لصنف الروايات الخلاصيَّة. الرسالة المضمّنة في هذه الرواية هي أننا صرنا نشهدُ عالماً انفلتت في بعض أقاليمه المعايير الضابطة لعلاقة الأفراد بالتكوينات المؤسساتيَّة الحاكمة، وبلغ سوء العيش حداً جعل مجموعة من الشباب يتكاتفون لبلوغ خلاصهم الفردي والجمعي معاً. نستطيع القول إنّ “مشروع اومّا” نسخة حداثيَّة من روايات البحث عن مدنٍ فاضلة ممكنة، مع نأيٍ عن فكرة اليوتوبيات السائدة. إنها حلمٌ قابلٌ للتحقق بوجود الرؤية المُعَزّزة بشغف المحاولة وصلابة المسعى والتلذذ بالخلاص المرتجى وهو خلاصٌ دنيويٌّ وليس لاهوتياً”.

شهدت الدليمي التغيرات التي طرأت على الرواية العراقيَّة بعد 2003، لكنْ هل هذه الروايات تناسب حجم التغيرات التي طرأت على المجتمع العراقي عن ذلك تقول “لو تساءلنا: هل أنّ الإنتاج الروائي والإبداعي العالمي – في السينما مثلاً – كان مكافئاً لحدثٍ مزلزلٍ مثل الحرب العالميَّة الثانية؟ فأظنّ أنّ الجواب صعبٌ للغاية. البعض يراه مكافئاً وآخرون يرونه غير مكافئ، وها نحن حتى اليوم نشهدُ أعمالاً إبداعيَّة جديدة حول هذا الحدث. الأمر شبيهٌ بزلزال العراق بعد عام 2003. الأمر الاكثر أهمية هو أنْ تكون الأعمال الروائيَّة المنشورة ممثلة حقيقيَّة لتصوير ما ترتّب على ذلك الزلزال من تبعات كارثيَّة أصابت الفرد العراقي - والوطن العراقي كذلك - في مقتلة بشعة”.

كاتبة مثل لطفية الدليمي غزيرة الإنتاج شكلت علامة معرفيَّة بارزة في الثقافة العراقيَّة كونها متعددة النشاطات وذات إلمامٍ في كل أنواع المعرفة. تنسّق بين شغف الكتابة وجهد الترجمة في آنٍ واحد. “الأساس في كلّ عملٍ إبداعي في الحياة هو الشغف المدعوم بقوة الفعل والإنجاز. أستمدّ قوتي من اللا أمل في أي مشخّصات مادية. ليس ما كتبته خطأ أو هفوة. اللاأمل - بدل الأمل - يلغي خيبة الأمل ويجعلك كائناً ميتافيزيقياً ترنو نحو المثابات العالية التي لن تتلاشى قدرتها المؤثرة في إدهاشك كل يوم. هذه فلسفة رواقيَّة لو كنا تعلمناها وتمثلناها في بدايات حياتنا الفكريَّة لجنّبتنا الكثير من خيبات الأمل وخذلانات الروح وانكسارات القلب. أقرأ عدّة كتب في وقتٍ واحدٍ، هذا صحيح جداً. ولو شئنا الدقة أكثر سأقول: أقرأ بمعدّل خمسة كتب مختلفة التوجهات المعرفيَّة في وقتٍ واحدٍ. ليس من قصديَّة كامنة في هذا التوجّه سوى أنني وجدتُ بعد خبرة وقراءات مطوّلة أنّ عقلي يعملُ بطريقة أكثر حيويَّة ونشاطاً متى ما تعشّقت قراءاتي بألوانٍ معرفيَّة مختلفة لكنها تسعى لبلوغ غاية واحدة هي شرف المسعى الإنساني ونبله في الاقتراب من جوهر الأسئلة الكبرى The Big Questions ، وهي أسئلة تختص بطبيعة وأصل الحياة والوعي والكون”.

وهي ترجع اختيار ما تقوم بترجمته إلى شعورها “بأنّ عملاً ما قرأته ينطوي على أهمية كبرى أعظم من أنْ أختصّها لنفسي، وأنّ المروءة تقتضي أنْ يشاركني القارئ متعة استكشاف هذه الأهمية. الترجمة فعلُ كرمٍ كما أرى”.

تقول الدليمي إنها مفتونة كثيرًا بأبي حيان التوحيدي وهي تصف ذلك بقولها “التوحيدي هو القطب الأكبر في الفريق المعتزلي – ذلك الفريق الذي لو قيض له العمل بحرية واستمراريَّة من غير مناكفات لكان في وسعه اجتراح عصر تنوير عربي معادل لعصر التنوير الأوروبي. أتركُ لخيال القارئ تصوّر شكل عالمنا العربي في أعقاب عصر التنوير المعتزلي. كنا في أقلّ تقدير سنتجنبُ الكثير من الخسائر التي طحنت قوانا وبدّدت قدراتنا الفكريَّة ونكصت بنا بعيداً عن مضامير التفكر الفلسفي الحر والإضافات النوعيَّة المشهودة في حقول العلم والتقنيَّة”.

تحدثنا السيدة لطفية الدليمي عن الكتابة وممارسة دورها في هذا العالم “منحتني الكتابة شرف عيش الحياة ببطولة وزهد والاكتفاء بالقليل من الأشياء الضروريَّة لإدامة الحياة وتترفعُ على صغائر الأفعال وضغائن القلوب ومناكفات البشر الذين أدمنوا العيش وسط ضوضاء مقيتة شلّت عقولهم وأرواحهم.”