الفتى.. على الدرّاجة الهوائيَّة

ثقافة 2023/05/25
...

 لؤي حمزة عباس

في أوائل السبعينيات، انتقلنا من منطقة الجمهورية، حيث ولدت، إلى خمسين حوش، التي تسمى رسمياً بحي الشهداء، في قلب المعقل، وتلك واحدة من أهم انتقالات الأسرة، كما أتصور. لم نمكث طويلا في أم الصبور، وهي التسمية الشعبيّة للمنطقة، بقينا أشهراً فحسب، لكن وقعها، على الرغم من ذلك، ترك أثراً حاسماً في نفسي، بجسرها الخشب العريض المثبتة ألواحه بمسامير طويلة مفلطحة الرؤوس، الذي تئز مفاصله تحت أقدام العابرين، وحديقتها الواسعة ذات القبّة الصينية الرشيقة، والنافورة المستديرة بزهرة اللوتس ذات الأوراق العالية التي لم أرها يوما تطلق الماء.

كان بيتنا يقع بين صفين من بيوت العمال الخمسين، خلف صفي البيوت تقع مكتبة المعقل العامة، وأمامها الحديقة الواسعة المحاذية للنهر بشوارعها العريضة المبلّطة ونخيلها العالي..

على قِصر المدّة التي قضيناها، شهد بيتنا زيارات من أقرباء لم يكونوا يفكّرون بزيارتنا، فرادى أو بصحبة عوائلهم.

في العطلة الصيفيّة الطويلة كان الأولاد من أبناء الأقارب، يبيتون عندنا، على الرغم من ضيق البيت الذي لم يكن يحتوي أكثر من غرفتين متداخلتين هما، في حقيقتهما، غرفة طولية واحدة، ومساحة خلفية صغيرة تيبّست على ترابها ذروق العصافير، تظلّلها شجرة سدر عتيقة.

كان رحيم، ابن الحاج سلمان، خال أبي، في مثل عمري، وربما كان يكبرني بسنوات قليلة، يأتي من الجمهورية على درّاجته الهوائيّة، وقد ربط كتبه المدرسية بشريط مطاط على السلّة

الخلفيَّة.

كانت تذهلني، حقاً، رؤيته يقطع الحديقة على درّاجته النظيفة السوداء وهي تلمع في الضوء، فور أن يراني يميل بالدرّاجة إلى أحد جانبيه، كما لو كان يوشك على السقوط، ثم يعتدل ضاحكاً، ينفخ الهواء قميصه

المُشجّر.

في الصباح، يخلع حذاءه ويثني ساقي بنطلونه، ثم ينزل إلى النهر ليصطاد الأسماك الصغيرة بيده ويرميها في كيس نايلون مملوء حتى النصف بالماء، وكنت على الضفّة أتابعه وأنا ألقط القواقع الجافّة، أنفخ فيها بقوة لكي تنهض الحلازين من نومها، وتطلُّ برؤوسها الرخوة وهي تحرّك مجسّاتها، لكنها لم تنهض مرّةً أو

تطلّ.

كان أبي يمرّ قريباً من النهر على درّاجته الناريَّة، في طريقه إلى العمل، يراني ولا يرى رحيم، يُطلق المنبّه عالياً فأضحك من كلِّ قلبي وأرفع يدي التي تقبض على القواقع، وألوّح له.

مرةً، أفزعتني صرخة رحيم المفاجئة، كانت سمكة أبو الزمّير قد جرحت يده بزعانفها الحادّة

دفع قدميه تخوضان في ماء النهر، وسار نحو الضفة،

 ألقيت القواقع ومدّدت يدي نحوه، بيده الجريحة أمسك يدي، فسحبته نحوي

قال: 

ـ الدم يجمعنا.

بصوت واضح قريب، ونبرة مؤثرة

استغربت أن يقول مثل ذلك، وفكّرت بالدم يتفجّر ويسيل مع الماء، وتساءلت مع نفسي: كيف له أن يجمع الناس؟