وهمُ الاستباق في النقد العربي المعاصر

ثقافة 2023/05/25
...

 عبد علي حسن

شهد العقد الثمانيني من القرن الماضي نقلة نوعيَّة في مسار النقد العربي المعاصر، وذلك بفعل دخول مناهج النقد الغربي الحديث، وأعني البنيويَّة ومابعدها بعد إزاحتها النقد الكلاسيكي/ البلاغي والنقد التاريخي والنقد الاجتماعي والنقد النفسي، وأزاء هذا الاهتمام بالنقد النصّي الجديد الذي أجاب على عديد من الأسئلة التي تثيرها الأشكال الجديدة في الثقافة العربيّة وأكثرها وافد من البنية الثقافيَّة للآخر كقصيدة النثر والرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.

فضلا عن ذلك انفتاح الدرس الأكاديمي في الجامعات العربية أمام هذه المناهج والطروحات الجديدة لأساطين النقد الغربي، وجدير بالإشارة إلى أن تبني هذه المناهج قد خضع لعملية إبداعيَّة أخذت بنظر الاعتبار خصوصيَّة النصّ العربي وتمَّ وفق ذلك تقديم البحوث والدراسات التي تمكّنت من التفاعل مع تلك النصوص التي تضمنت آليات وتقنيات حديثة لتتسق وموجهات النص العربي الحديث، كما وتوفرت قناعة إيجابيَّة بفاعليَّة تلك المناهج وتأثيرها لتأشير مواطن التقدم والتجاوز في النصوص العربية المنجزة، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن تلك المناهج النقديَّة وكذلك الأشكال الإبداعيَّة التي وفدت من الآخر كانت استجابة لصيرورة اجتماعيّة وفكريّة تحايثت ومرحلتي الحداثة ومابعدها وترحيل نتائجها إلى المجتمعات الأخرى من خارج جغرافية الحداثة وبنسب مختلفة ومنها مجتمعنا العربي، إلّا أنّ هذه الاستجابة والتأثر بتلك المناهج وما توصل إليه النص الغربي من صيرورات جديدة متجاوزة لما أُنجز في مرحلة ماقبل الحداثة قد وقفت أمامه بارتياب وشكّ ولاتزال أصوات نقديَّة حتى من داخل المؤسسة الجامعيَّة ومن أنصار النقد الكلاسيكي.وقد اتخذت هذه المعارضة والشكّ وجهتين، الأولى أنكرت إمكانية استخدام المناهج النقديَّة وبعض الأشكال الوافدة كقصيدة النثر بدعوى أن هذه المناهج والأشكال هي وليدة المجتمع الغربي وخاصة به والذي تختلف خصائصه عن المجتمع العربي، متذرعين بوجود درس نقدي عربي من الممكن الاستضاءة به في المقاربات النقديَّة، أما الوجهة الثانية فقد انهمكت في البحث والتنقيب في منجز التراث العربي للعثور على نصوص امتلكت خصائص الأجناس والأنواع الأدبيّة الوافدة وعدّت ذلك سبقاً في الانجاز قبل أن ينجزه أو يتوصل إليه الآخر كما ادّعى كتاب قصيدة النثر العربيّة في مراحلها الاولى الى استيفاء نصوص المتصوفة المسلمين شروط قصيدة النثر أو اعتبار الأدعية والكتابات السومريَّة والأكديَّة والبابليَّة القديمة قصائد نثر أو وجود جذور للقصة القصيرة جدا كما في نصوص الجاحظ وبعض الحكايات التراثية

القديمة. وأخيرا وليس آخرا الكشف عن وجود تجريب في رواية الميتاسرد كما في النصوص التي أنجزت في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي كما في محاولة الناقد عبد الله الميالي في عد رواية (في قرى الجن) القاص العراقي الراحل جعفر الخليلي كونها رواية ميتاسرد التي ظهرت مقترنة برواية مابعد الحداثة على يد رواد الرواية الفرنسية الجديدة في ستينيات القرن الماضي، وفي الوقت الذي قُدّمت فيه إجابات وافية على أصحاب الوجهة الأولى عبر العديد من الدراسات فضلاً عن نجاح النقد العربي المعاصر في استخدام تلك المناهج النقدية الحديثة لمقاربة النصوص الإبداعية شعرها وسردها وإقامة المؤتمرات والحلقات الدراسية لتقديم نص نقدي عربي يبتعد عن حرفية التقليد وابداع وسائل نقدية تتساوق والنص العربي ضمن دائرة تلك المناهج وبمعنى آخر تقديم إبداع في ممارسة تلك المناهج التي أثبت الواقع النقدي جدواها وأثرها الإيجابي في تحليل النصوص الإبداعيَّة. أما أصحاب الوجهة الثانية فلايزالون يمارسون الحفر في ما أنجزه العرب قديمهم وحديثهم ليؤكدوا وجود جذور للأشكال الإبداعيَّة في حاضنة التراث العربي متغافلين عن المبادئ والشروط الإبداعيَّة لظهور الأشكال الجديدة وفق ما يُستجدّ في البنية الاجتماعيَّة، أي أن تلك الأشكال هي ابنة واقع اجتماعي محدد زمنياً وتحمل سمات العصر الذي أنتجت فيه ومعبّرة عنه .وهذا ما افتقده المقال النقدي (التجريب الميتاسردي في رواية قرى الجن) للكاتب عبد الله الميالي المنشور على الصفحة الثقافية لجريدة الصباح الغراء ليوم الاربعاء 26/ 4/ 2023. فقد عدّ الكاتب الميالي قصة (في قرى الجن) للقاص العراقي الراحل جعفر الخليلي رواية ميتاسردية .ولا شك أنَّ وضع قصة صدرت عام 1948 في منطقة سرد مابعد الحداثة الذي شاعت آلياته وتقنياته بعد الستينيات من القرن العشرين أمر محفوف بالمخاطر والتسرع في إصدار حكم كهذا، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن كل ما أنجز من سرد روائي عراقي قبل رواية (النخلة والجيران) للروائي غائب طعمة فرمان يُعدُّ مقدّمات وارهاصات للرواية الفنيَّة الحائزة على المواصفات الفنية للرواية كفنٍ أدبي وفد من البنية الثقافية للآخر، وهذا يعني أن قصة (في قرى الجن) للقاص جعفر الخليلي لم تكن مستوفية للشروط الفنية المعروفة لفن الرواية. إذ إن هذه القصة لم تكن قصة بمفهومها الحديث، ومن الممكن اعتبارها محاولة لكتابة قصة، فهي خليط من السيرة والمقالة والخاطرة وتستوي مع غيرها من المحاولات القصصية التي أنتجت في تلك الحقبة من تاريخ المجتمع العراقي (الثلاثينيات والاربعينيات) من القرن الماضي، وليس من الصواب مقاربة ومحاكمة تلك القصص وفق معايير النقد الحديثة والمعاصرة، مما يقلل من قيمتها الفنية ويضع كاتبها في مكان غير مناسب له، وهذا ما حصل في المقالة موضوع المناقشة، إذ إن الكاتب عبد الله الميالي قد افترض أنها رواية ميتاسردية، بينما لم يتوصل في تحليله إلى اعتبارها ميتاسردية، حتى أن النصوص التي استدلّ بها واتكأ عليها لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى مستواها الفني الذي لم يتجاوز ما أشرنا إليه آنفا بعدها محاولة لكتابة قصة، إذ إن نصوص النقاد والكتاب الذين تناولوا بالتقييم لهذه القصة أشارت إلى مصادر كتابتها من التراث الشعبي وقصص ألف ليلة وليلة والحكايات الخرافية، وهو ما تضمنته السرديات العربية القديمة، وهذا ما ذهبت إليه اقوال النقاد والكتاب الذين استشهد المقال بهم/ د. عمر الطالب، د. صبري مسلم، والأمريكي جان توماس، والناقد مهدي شاكر العبيدين والكاتب حميد الحريزي الذين اتفقت أقوالهم على أن (في قرى الجن) محاولة مبكرة للاستفادة من التراث الشعبي وأجواء قصص ألف ليلة وليلة التي تمزج الواقعي بالخيالي والعجائبي في معالجة مشكلات المجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت جميع الاستشهادات بعيدة عن تشخيص انتمائها الإجناسي وتحديدا الميتاسرد الذي يعني، (هو نوع من الكتابة السردية، ذاتية الانعكاس، تتمثل في وجود تخيل فوق التخيل الأصلي، وتعليق النص على نفسه وطريقة سرده وهويته)، أي أن النص يمتلك وعياً ذاتياً يكسر من خلاله الحاجز بين الخيال والواقع، وبهذا المعنى فإنَّ الميتاسرد هو تقويض ومجافاة للقواعد التي نهضت عليها الرواية التقليدية/ الكلاسيكية، لذا فإنَّ ظهور الرواية الميتاسردية بعد الحرب العالمية الثانية كانت تحمل بذرة الشكّ بيقينيّة رواية الحداثة أو السرديات الكلاسيكية على يد روادها من جماعة (الرواية الجديدة) في فرنسا والتي أطلق عليها سارتر (اللا رواية) المجافية للقواعد البنائية للرواية الكلاسيكية، وبذلك صار الإعلان عن سرديات مابعد الكلاسيكية التي اتجهت صوب الاهتمام بعملية الكتابة ذاتها؛ لذا فليس من الغريب أن تخلو كتب النقاد العراقيين عباس عبد جاسم وفاضل ثامر ورسول محمد رسول المكرّسة للميتاسرد من الإشارة إلى قصة (في قرى الجن) بعدها ميتاسرديّة لأنّها وببساطة غير مستوفية لشروط الكتابة الميتاسرديّة، فقد أشار الكاتب عبد الله الميالي في مقاله (ومن الغريب أن النقاد والدارسين والباحثين/ في العراق تحديدا/ قد تجاهلوا هذه الرواية في مبناها الميتاسردي.... وهنا أشير إلى كتاب الناقد عباس عبد جاسم (ما وراء السرد ما وراء الرواية ) الصادر عام 2005 وكتاب الناقد فاضل ثامر (المبنى الميتاسردي في الرواية العربية) عام 2013 وكتاب الدكتور رسول محمد رسول (السرد المفتون بذاته) عام 2015 فقد خلت هذه الكتب من الإشارة إلى رواية (في قرى الجن) عند التطبيق على الروايات الميتاسردية) إذ إن استغراب كاتب المقال لا يملك مشروعيته للأسباب التي ذكرتها آنفا، فوجود الخرافة والسيرة والرسائل التي تضمنتها قصة (في قرى الجن) ليس لها صلة لا من قريب ولا من بعيد بموجهات الكتابة الميتاسردية التي تتطلب القصدية والوعي بالكتابة والتكرار والتجاوز وهو ما لم تتوافر عليه القصة المذكورة التي لا تتجاوز بنائية سالوفة الجدّات  الخرافية، وأعود لأُذكّر بالحقيقة المعرفية والموضوعية التي تنصُّ على أن ظهور أي شكل إبداعي جديد مرتهن بزمانه ومكانه ويعد صيرورة جديدة تنسجم وصيرورة الحراك الاجتماعي الجديد، ومن الممكن مراجعة الظروف الاجتماعية والثقافية والفكرية التي انتج فيها القاص الراحل قصته (في قرى الجن) عام 1948 ليجدها مختلفة تماما وجذرياً عن الظروف الاجتماعية والثقافية والفكرية التي أنتجت الرواية الميتاسردية في ستينيات القرن الماضي؛ لذا فإنَّ محاولة استباق التجريب الميتاسردي في الرواية العراقية قبل ظهورها الطبيعي أمر لا طائل منه، فضلاً عن أن محاولة الاستباق هذه قد أضاعت المكانة الصحيحة للقصة المشار إليها ولكاتبها

أيضاً.