أكاديميَّة الضحك

ثقافة 2023/05/25
...

  علي العقباني


يكمن جوهر المسرحيَّة الهزليَّة أو الكوميديَّة الحواريَّة في الأداء المسرحي القائم على المحادثة فالجوانب المثيرة للاهتمام في المحادثات والعلاقات الإنسانيّة هي مصدر سحر هذا النوع من الأعمال، وهو ما تتمتع به مسرحية الياباني كوكي ميتاني “أكاديميَّة الضحك”.بأسلوبها الحواري والشكلي والموضوع الفريد تفتح المسرحية العديد من الأبواب المغلقة والخفية وراء نصها الذي يعد من أهم أعمال الدراماتورغ والسيناريست والمخرج الياباني المعاصر كوكي ميتاني، بإعداد وإخراج من الدكتور سمير عثمان الباش (أستاذ مادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية والمشرف في  محترفه المستقل في مدرسة الفن المسرحي – جرمانا) والتي تعرض حالياً على خشبة مسرح القباني بدمشق.“أكاديميَّة الضحك” أو “جامعة الضحك” العنوان الأصلي للنص الياباني، أنموذج خاص يتميّز به أسلوب ميتاني في كتابة هذا النوع من الكوميديا، فمن خلال بنية درامية تقوم على صراع أزلي بين الإبداع والرقابة، بين المبدع والسلطة، عبر شخصيتين الأولى هي موظف الرقابة على المصنّفات الفنيّة ويلعب الدور الفنان لجين إسماعيل، والكاتب المسرحي والدراماتورغ ويلعب الدور هنا كرم حنون، تنفتح فضاءات الأسئلة والتأويلات والمساحات المظلمة والمضيئة والملتبسة بين عالمين يبدوان متنافرين حد القطيعة، أسئلة المسرح والإبداع والرقابة والحد الفاصل بين الواقع والخيال والحوارات الطويلة هي عماد أو أعمدة هذا العرض الشيق الذي امتدَّ قرابة الساعتين.من خلال قصة كاتب مسرحي كوميدي يحاول جاهداً الحصول على ختم الموافقة من مسؤول الرقابة ليكون عرضهم جاهزاً لافتتاح الموسم، وهنا تبدأ رحلة عذابات الكاتب ومحاولاته ومراوغاته لإقناع المراقب بمنح موافقته على العرض، لكن المسؤول القادم من جهاز رقابي إداري على مواد تموينيّة يطلب منه في كل لقاء إجراء تعديلات كارثية على النص واقتراحات لشخصيات تبدو على غير علاقة بالنص، وقد تُذهب العمل إلى موقع مختلف كما يرى الكاتب بداية، وحجته أنَّ “الأوامر أتته من فوق” لرفض أعمال كوميديّة، والمطالبة بأعمال تمجّد الوطن، وأن المرحلة الحرجة التي تمر فيها البلاد لا تسمح بتقديم عروض كوميدية من خلال جملة “يحيا.. يحيا..عاش عاش”.ولنقارب النص قليلاً، الكاتب يُقدم للرقيب نصاً كوميدياً مستوحى من رائعة شكسبير روميو وجولييت، وقد أجرى الكاتب الكوميدي عليها تعديلات من العنوان حتى الشكل والمحتوى (فقد أسماها “جوليو ورومييت” ويقدمها في إطار كوميدي ستؤديه فرقة “أكاديمية الضحك” لتصبح طريفة وذات مواقف كوميدية) يمكن لمخرج العرض أن يضع بعض الإيفيهات والتوابل التي يعتقد أنها مضحكة، الرقيب لا تعجبه الفكرة ولا النص ويقترب من إعلان عدم موافقته على النص حتى يورطه الكاتب بإجراء اقتراحات أو تعديلات يراها الرقيب مناسبة ليصبح النص ممكناً للعرض، يبدأ الرقيب بفرض تعديلاته التي يلتزم بها الكاتب ويُعدل، تأتي في إمكان مفارقة وكوميدية أكثر من النص الأصلي، فمثلاً  تخيلوا “هاملت” الشخصية الشهيرة لدى شكسبير، طالب الثأر، والغاضب والذي تسيطر عليه أفكار مجنونة عن الثأر والخيانة، يحل محلّ “روميو”

 بكل رومانسيته ومكابداته العاطفيّة وانتظاراته وغرامياته المرحة مع جولييت العاشقة والمنتظرة عند شرفتها وتحت ضوء القمر، ماذا سيقول لها وكيف سيكون هذا الحب، وفي احدى التعديلات الطريفة حيث يهم العاشقان على تبادل قبلة صريحة وشغوفة يظهر في المكان فجأة الشرطي “أبو صقر” يلاحق لصاً هارباً وقبل أن يهمّ العاشقان بطبع قبلة الحب العذب على شفتيها، فيُفسد عليهما تلك اللحظة. وأمام عذاباتُ الكاتب ومحاولاته في الاقناع والرشوة والهدايا والتحايل والمراوغة والمفارقة لإقناع المراقب بمنح موافقته على عرض المسرحية، تتشكل بين الاثنين حالة إنسانية من نوع خاص في التأثر والتأثير، فمع الوقت يتورط المراقب في لعبة المسرح وتصبح اقتراحاته الواقعية والغرائبية أيضاً كوميدية تضيف للنص وقعاً مختلفاً يجعل الكاتب يُدخل كل التفاصيل المقترحة كجزء من النص، هنا سيكون لدينا مسرحية أخرى كتبت بيد الرقيب واقتراحاته، ولا سيما حينما يتورّط بالأداء التمثيلي مرة بدور الكاهن ومرة بدور الشرطي “أبو صقر” الذي يوصي شخصية مهمة بإعطائها مساحة أكبر في المسرحية، هنا يصبح الواقع بشخوصه وتفاصيله وتموقعاته في النص أشد كوميدية وسخرية من النص الأصلي، ربما أن الواقع بعبثيته ولا منطقيته أكثر كوميدية وتراجيدية ربما من أي نص.خشبة مسرح خالية سوى من طاولة عليها مصنفات وكرسيين وطربيزة صغيرة تتنقل إلى أمكنة مختلفة في كل مشهد، تغيير ديكوري يناسب حركة الممثلين أثناء المشهد، وربما يحيل إلى عدم ثبات، ويحيط بها على الجدران أدراج كبيرة لمصنفات رقابية، إضاءة مُقتصدة متسعة خافتة صفراء غالباً تتركز في بعض الأحيان على بؤر معينة، وكذلك تكاد تكون المسرحية خالية من الموسيقى سوى في بعض الأماكن النادرة، كانتقالات بين مشهدين، كما تسهم الستارة في الفصل بين المشاهد، نحن هنا أمام أداء تمثيلي تعبيري خاص متقن وحيوي ورشيق، وذاك ليس غريباً على ممثل مجتهد مثل لجين إسماعيل الذي لم ينقطع عن المسرح منذ سنة تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية عام 2015، وقام بأدوار سينمائية وتلفزيونية مهمة، وكذلك الممثل الملفت للنظر كرم حنون المتخرج في مدرسة الفن المسرحي والتي يشرف عليها الدكتور الباش، تلك هي أدوات المخرج الدكتور سمير عثمان الباش في هذا العرض الذي يدرك تماما في كل تفصيل فيه أين يمكن أن تذهب الإيحاءات والمفارقات والتأويلات واللعب اللفظي والحركي والتشكيلات التي يصنعها الممثلان خلال الأداء والحركة، عوامل اشتغل عليها بمهارة لافتة، والطريف في النهاية أنَّ الرقيب يتحول عبر اللقاءات السبع مع الكاتب وقراءاته في البيت إلى شريك في صناعة المسرحية وأحداثها وشخصياتها، واشراكنا بها، وذاك في المآل الأخير يطرح عدة تساؤلات معرفيَّة حول النص والعلاقة الملتبسة دوما بين المبدع والرقيب وبين المثقف والسلطة. الموضوع لا يمكن حصره هنا حول فكرة الرقابة التي تفرضها السلطة وأدواتها على حرية التعبير والفكر، وبالرغم من تأكيدات ميتاني أنه لم يقصد جانب النقد السياسي للسلطة تحديدًا، إلا أن العامل السياسي طاغٍ وبارز بالموضوع بروزًا لا يمكن الابتعاد عنه، فعناصر التلاعب اللفظي بمختلف تنويعاته وإيحاءاته، عامل أساسي في المواقف الكوميدية الحاصلة بين الشخصيتين، فضلاً عن عنصر التشويق والاستفزاز المستمر بينهما وهو ما جعل الأحداث تترقب كشفها لذروة المشاعر والتمنيّات والتغيرات في أحوالها، مما جعل متابعة العمل الذي قارب الساعتين مثيرة ومبهجة ومستفزة في آن.