التمسرُح في الفن التشكيلي

ثقافة 2023/05/27
...

 د. جبار خماط حسن 


باللون والخط والفراغ والتكوين، يرسم التشكيلي مسرحه الخاص على سطح القماشة، تارة زيتا ومرة اكريلك، ليكون الناتج، عالما مستقلا من الجمال يبثه النص البصري إلى الرائي، في نسق من اللذة والمعرفة الفنية التي تزيد من التداخل والايمان بما 

حولنا!.

يحدد الجرجاني خلاصة في فهم الآداب والفنون، إذ يقول: قد نرى الصورة تكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، فإنّها أدنى للقبول وأعلق بالنفس وأقرب إلى القلب. كذلك يقول (أولمان ستيفن) للكلمة صورتان، صورة مكتوبة وأخرى منطوقة، وتضاف صور بصريَّة للمكتوب، وانطباعات حركيَّة مختلفة .

هكذا يفهم الكلمة الفنان سلام جبار حين فكّك النص الشعري (صويحب) من ديوان مظفر النواب (للريل وحمد)، إذ نجد الفنان سلام جبار أوجد مقابلا بصريا، امتلك عناصر الايجاد الفني من تناغم وتضاد ونعومة وخشونة قاسية، لتكتمل لديه الرسالة الفنية التي يتمركز عليها النص البصري التشكيلي (صاحب صويحب).

إنَّ كمية الحزن والفقد واللوعة والتحدي والمقاومة في النص الشعري حين لخصها النواب في كلماته الثوريَّة التي تتغلّف بجمال أخّاذ، يتفاعل معه القارئ،إذ يقول في قصيدته (صويحب): ميلن/.. لا تنكطن كحل/ فوك الدم/ ميلن/ وردة الخزامه تنكط سم/ جرح صويحب/ بعطابه/ ما يلتم/ لا تفرح أبدمنه .. لا يالكطاعي/ صويحب من يموت.. المنجل يداعي.. حـــــاه: شوسع جرحك/ ما يسده الثار.. يصويحب.

إبداع في التصوير الأدبي مع تمسرح مشهدي، قوامه المكان والزمان والشخصيات في حالة فعل، فالنص الشعري (صويحب) متحرك لا ساكن، يبدأ (ميلن) يعطي بعد التدافع على جثة صويحب، لتطلب زوجته أن يبتعد من يتجمهر حول الجثة ليكون لها وحدها في حوار فردي (مونولوج) تخاطب من حولها وزوجها المقتول في آن معا !

هكذا فعل سلام جبار ليأتي بتمسرح تشكيلي جديد قوامه ثلاث حركات :

1 -  حركة التمسرح اللوني: ثنائية التكوين ما بين الألوان الحارة والباردة، ليكون إيقاعا في الملمس البصري للون، مما ولد في السطح البصري الضوء بجوار الظلمة في مجاورة متقنة الايحاء وكأنّه يقول: من الظلام يأتي الضوء، من الانكسار يأتي الثبات.

2 -  حركة التمسرح اللفظي: تبادل وظيفي ما بين الالفاظ والصورة، نتذكر قصيدة صويحب، لنتفاعل معها تكوينا من الاصوات الثائرة من نسوة فاقدات ورجال منكسرين، نجد أصواتهم ساكتة وعيونهم لا ترى الضوء من فرط الانكسار، كل هذا التداخل الايقاعي للجسد والصوت، في مرثية صويحب، منحه لنا النص البصري للفنان سلام جبار في ايقاع فريد من الاظهار والتلاشي لأصوات وأجساد، تعوم في الفراغ مثل كائنات بدائيَّة لا شكل لها !

3 -  حركة التمسرح البيئي: ما يميز النص البصري للفنان سلام جبار هو الترحيل الثقافي للبيئة من النص الأدبي إلى النص البصري، من المتحرك إلى الساكن، يعطي لنا إحساسا بامتداد البيئة من الغرفة الضيقة/ الشهيد المغدور، إلى المحراب المغدور/ الإمام علي، هذا الامتداد البيئي أعطى جاذبيَّة وسريَّة روحيَّة للنص، لا نجدها إلا في بلاغة النصوص العظيمة متقنة الصنع .

هذه الفرجة من التمسرح يعبر عنها حسن يوسفي، بقوله "الفرجة: عملية ابداعية يتم فيها تشغيل وسائل تعبيرية، تحتوي على لغات سمعية وبصرية، تتحول إلى علامة جمالية كبرى"، هكذا نجد أنفسنا أمام تمسرح تشكيلي منحه لنا الفنان سلام جبار في نص البصري (صاحب صويحب) الذي أجده ثوريا في تكوينه، متوازنا في بنائه، لكنه يخلخل لدى المتلقي ثوابت سجنت إرادته باليومي المتكرر الرتيب.

للثورات شهداؤها، ورموزها، من دون مصالح إو اجندات المنافع الجاهزة، إنّها صناعة للتاريخ، سلام وسط بركة العنف الآسنة.. ألوان تتراوح ما بين الباردة والحارة، لتشكل في وعينا، قصة الشهيد الذي نفقده، ليكون شاهداً على فشلنا !

الرؤوس مطأطئة، وكأنّها في لعبة انكسار دائمة، تترك فينا أسئلة لا جواب لها، لأنَّ الجميع فقد القدرة على الاتيان بالاجابات !

ها هو مظفر النواب، يريد شحذ الهمم بنصّه الشعري (صويحب)، لكن هول الواقع وفجيعة الفقد لكلِّ غالٍ وعزيز، يجعل الجميع في حيرة دائمة، عيون تائهة، وجوه متشابهة، تشترك في ضياع بوصلة اليقين بالمستقبل !

ما يميّز هذا النصّ البصري، بعده التاريخي - الانثربولوجي، متمثلا في صورة اشهارية للإمام علي، في أعلى الجدار؛ وجودها قدم لنا مدوّنة درامية، في غرفة ضيقة تخاف الضوء، وكأنَّ جميع من تواجد في المتن البصري، هم شخصيتان، في أفعال درامية تداولية، تتعدد في وعي الرائي، في مدوّنة الشهادة الأولى/ الإمام علي، وصولا إلى هذا الشهيد المسجّى بين أهله.

تكثيف دلالي، نسج في داخلنا شبكة من الدلالات، تعاضدت لتكون متنا إبهاريَّا، نجح سلام جبار، في إشهاره جماليَّا، ليمتد لذة شعوريّة وفكريّة ما بعد 

التلقي.