التخصص العلمي.. الجدل والتحولات

ثقافة 2019/04/23
...

نصير فليح
عندما نقرأ عن مفكري وعلماء وأدباء الماضي، من عرب وغيرهم، ونقرأ أنّ الواحد منهم كان أديبا وفيلسوفا وعالما ورياضيا وغير ذلك، يراودنا شيء من شعور مزودج: تقدير واعجاب من جهة، ونظرة الى زمن قديم لم تكن فيه التخصصات قد تبلورت من جهة اخرى. وقد تقفز الى ذهننا صورة عن تقدم الفكر والعلم عبر التاريخ، وكيف خرجت العلوم تباعاً من “معطف الفلسفة”، لتحدد مواضيعها ومنهجياتها المميزة، التي دفعت بها خطوات كبيرة الى أمام.

العلوم الطبيعية والمباحث الإنسانية
والحق ان هذا الموضوع فيه مفارقة كبيرة وتحولات كبيرة أيضا. فأبرز منظري عالمنا المعاصر، مفكرون ومنظرون في عدة مواضيع ومباحث متداخلة في الوقت نفسه. وهو ما يعرف حسب المصطلح المعاصر بالبحث المتداخل الحدود interdisciplinary، أي الحقول المعرفية المتخطية للحدود التخصصية مما تم التعارف عليه في القرنين الماضيين من الزمان بوجه خاص. وثمة جدل كبير في عصرنا حول هذا الموضوع، وجذوره ودلالاته العميقة، كما سيتضح أكثر في سياق هذه المقالة، وهذا متصل بوجه خاص بحقول المباحث الإنسانية.
كانت ذروة الحماسة العلمية، التي أصبح ناقدوها يسمونها “العلموية”، قد وصلت أوجها في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان ذلك بالتزامن مع ثقة غير مسبوقة بالعلم، والدخول في عصر الحداثة والصناعة والتكنولوجيا، حيث كانت الفيزياء - ولا تزال - رائدة في هذا المجال. ومع تبلور العلوم الطبيعية الرئيسة (الفيزياء، الكيمياء، البايولوجيا) أخذت العلوم الاجتماعية أو الدراسات الإنسانية humanities تسعى الى منهجيات ومعايير دقيقة تحاكي العلوم الطبيعية نفسها.
لكن تلك الحماسة، وضيق الأفق والمبالغة المقترنين بها، لم تلبث أن “هدأت قليلا” وكان لذلك أكثر من سبب. الفيزياء نفسها تعرضت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين (1895 - 1905 بشكل أكثر تحديدا كما تشير الموسوعة البريطانية، 2014) الى تطورات جديدة جذرية غيرت من طبيعتها وثقتها بيقينها ومعنى “الحقيقة العلمية” نفسه الى حد بعيد. 
وعلى رأس هذه التغيرات فيزياء الكهرومغناطيسية ونظرية الكوانتم والنظرية النسبية. لتتحول دراسة ظاهرة ما في هذا المجال الى دراسة العلاقة بين المراقب وموضوع البحث، بعيداً عن التصورات السابقة بأن الحقيقة العلمية مطلقة، ومستقلة، ولا تأريخية. وكانت لهذه التطورات انعكاساتها اللاحقة على معنى العلم والفلسفة والبحث النظري عموما، سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية.
 
الوضعية التجريبية والنظرية النقدية
العلوم الإنسانية نفسها أدركت في مجرى تطورها تعذر الوصول الى دقة مقاربة للعلوم الطبيعية. وبينما بلغت الثقة العلمية المفرطة ذروتها الفلسفية والنظرية في الاتجاه المعروف بــــ”الوضعية المنطقية” logical positivism أو “الوضعية التجريبية” empirical positivism التي نظرت الى كل ما يقع خارج نطاق المنهج العلمي المستند الى التجريب والمنطق والرياضيات كمحض ميتافيزيقيا وشأن عقيم - ما دام يتعذر اثبات صحته من عدمها تجريبياً - فإن فلاسفة آخرين قريبين من هذا الاتجاه، تحفظوا على هذه المبالغة، رغم انهم انصار متحمسون للعلم، من أمثال برتراند رسل وكارل بوبر. 
النظربة النقدية التي أسستها مدرسة فرانكفورت نظرت الى كل ذلك بشكل مختلف كثيرا. فلا العلم نفسه تتوجب مقاربته بهذه اليقينية وضيق الأفق، ولا يمكن فصله أيضا عن السياقات الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي يجري فيها. وأي تصور يرى العلم مصدرا لمعارف وحقائق محايدة يقينية مطلقة، ليس قاصرا معرفيا فقط، بل ومقترنا بايديولوجيا معينة تريد تصويره للأذهان على هذا النحو، لتفصله عن شمولية النظرة للإنسان، وعن الغايات الأكثر أهمية للبشر، وهي الأيديولوجيا الرأسمالية حسب النظرية النقدية. بعبارة أخرى ما سمّته مدرسة فرانكفورت (العقل الأداتي) instrumental reason الضيق المنشغل بالوسائل على حساب الغايات. وليس أدلّ من ذلك أن مدرسة فرانكفورت نفسها جمعت في نظريتها النقدية عدة مجالات “تخصصية” في الوقت نفسه. وبينما ظل المنهج العلمي (أو: العلموي، التجريبي/الرياضي) مهيمنا في الفلسفة التحليلية التي تطورت في بريطانيا والولايات المتحدة (واستراليا ايضا) فإن تطور الفلسفة القارّية (أي الفلسفة التي تطورت في القارة الأوربية، لا سيما فرنسا والمانيا) اتخذ منحى مختلفا، وصار التوتر والفجوة بين هاتين المدرستين الفلسفيتين أمراً واقعاً. 
ولا يزال الجدال اليوم حادا بخصوص حدود وطبيعة ومعنى “التخصص” نفسه، مما قد يشير الى اننا على اعتاب مرحلة جديدة لنظرة العلم والفكر والبحث العلمي والحدود التخصصية، لا سيما في مجال الانسانيات. فأبرز المنظرين النقديين العالميين المعاصرين هم من الباحثين ذوي النطاقات التخصصية المتعددة المتداخلة. 
وتعريف “النظرية” theory نفسها، كما يشير معجم اوكسفورد للنظرية النقدية (2014)، هو “الجمع بين الحدود التخصصية المتنوعة من فلسفة وأدب وعلم اجتماع مما قدمه باحثون من أمثال رولان بارت، ميشيل فوكو، جاك دريدا، وجيل دلوز”. 
 
“التخصص” وواقعنا الثقافي
إذا كان هذا هو الجدال على المستوى العالمي بشأن موضوع التخصص، فيمكن عندها أن ننظر بدقة أكبر الى واقعنا “الأكاديمي” والبحثي وما يجري فيه. حيث تعاني اشكالية “التخصص” في ثقافتنا العربية من أزمات إضافية، مثل التأخر او التدهور الأكاديمي نفسه نسبة الى العالم المتقدم، وشحة المعلومات والمعارف (كماً ونوعاً) مما يرشح من “كوّة الترجمة” الضيقة، والوجاهات الاجتماعية والمكانات الرمزية التي تلعب لعبتها، وتراجع الروح والإمكانات النقدية المؤسسية التي تتيح المراجعة والتقييم، كل هذا بعيدا عن أي أساس معرفي دقيق ورصين حقا، إلا في ما ندر. 
لا سيما ان معظم ما يجري عندنا من بحث، أصلاً، ليس سوى أصداء باهتة ومتأخرة غالبا، لما يجري في قلب المعرفة العالمية من تطورات ومخاضات لما تزل متفاعلة ومشتبكة.