الفيلسوفة التي لا تقرأ في {قمر أريحا»

ثقافة 2019/04/23
...

ضحى عبد الرؤف المل
 
 
تغنى الشعراء على مر العصور بالأم . فكانت الحياة بمجملها، بل  بصورها المختلفة بين الكائنات،  ومن لم نجد الأم في قصائده تكون الجدة هي البديل كرثاء” ابو الطيب المتنبي “ لجدته حيث قال:” أحن إلى الكأس التي شربت بهاواهوى لمثواها التراب وما ضما”  . وشاعرنا “محمود عثمان”  في ديوانه “قمر اريحا “ الصادر عن المركز العربي للابحاث والتوثيق في تموز يوليو 1999 وضع الاهداء “ الى الفيلسوفة التي لا تقرأ “ فالفلسفة هنا هي القدرة على الاتيان بخبرة حياتية.  لتمنحها الى وليدها بعيداً عن الشكوى والتذمر . لانها القادرة على تحويل السلوك الصبياني الى سلوك معرفي بعد ان اضاف صفة ثانية هي المعلمة،  ولم يقل مربيتي الانها استطاعت مده بتربية تعليمية تميل الى العلم القرآني الذي كانت تعرفه الكثير من الامهات من دون ان تكتب.  فكانت كلماته مسبوغة بالعرفان لها.  لان خفقان القلب الكبير يمنح الانسان قوة في التحمل والادراك والاصغاء الى كل ضعيف يدب على الارض فيقول :”
الى الفيلسوفة التي لا تقرأ
والمعلمة التي لا تكتب
إلى من علمني خفقان قلبها الكبير
أن أصغي لأنين القلوب الضعيفة.
وربما في الخفقان تصوير لشدة خوف الام على ابنها حين تضمه على صدرها بعد تعرضه لما يخيفها عليها.  فالانتصارعلى الجهل بالابتسامة هو ابتسامة الام لابنها، وهو يحاول اثبات وجوده امامها . كأن يشرح لها عن أمر ما وهو يظن انها جاهلة به.  فتستمتع له وكأنه الاستاذ على مدرج الجامعة او الشيخ على المنبر.  ولم ينس الشاعر دمعها الغزير الذي تكونت منه مياه البحار وان بتصوير حسي  يحرره من وطأة الملامح  التقليدية التي نصف بها الامهات عادة. فالمسافة بين حرف الجر الذي بدأ به القصيدة وبين” من فمي” هي اليك أمي .
وعلمتني ابتسامتها
أن انتصر على جهلي
ودمعاتها
أن ماء البحر قليل
إليك يا من أطلقت شرارة الوحي في دمي
وبلابل الشعر من فمي
إليك يا أمي
الامومة هي عاطفة تسكبها الأم وتنصهر معها . فيتطور الوليد وينمو ويكبر ويصبح من الذين انصهروا في بوتقة الحب الاكبر . هذه العلاقة الانسانية والعاطفة الامومية تصاحب الانسان في مسيرة حياته. فيكون لها الأثر الاكبر على الانسان والشاعر بشكل خاص. وهو في هذا الاهداء منحنا صورة ذاتية عن تلك التي جعلته يرتقي بلغة الشعر ، لانها من اطلقت شرارة الوحي في دمه ولم يقل في وجدانه او قلبه او فكره انما استخدم الدم الواحد الذي جمعه بها وهو الخارج من دمها وبهذا تتضح لنا قوة الحب في الطبيعة البشرية . فهل بلابل الشعر في القصائد الاخرى هي من وحي الام والوطن؟.
اسطر صغيرة جمعت الكثير من المفردات التي شحنها بالقوة الفنية القادرة على ايصال صورة الام حسيا الى القارئ،  وبايجاز لأم ترك الاسم الخاص بها”  والذي نعرفه جميعا هو “ الأم “ بينما منحها صفات الفيلسوفة والمعلمة والمنتصرة والباكية بصمت التي لا تقرأ ولا تكتب ومع ذلك اطلقت بلابل الشعر من فمه .
ان انعكاس صورة الام في الاهداء هو الموحي باضطرام لغة الشعر الوجدانية والعاطفية في تكوينها الاول، وهي الموطن الاول ايضا باتجاه الموطن الثاني الذي يجسد باهميته لغة البقاء، وما شاعرنا في ديوانه هذا الا الشغوف بالوصول الى الدرجات العلا.اي الى النغمة الجمالية الاتية من الام الفيلسوفة ومحبتها لشاعرنا الذي قدم لها تغريد قمر اريحا واطلالة قمرية لعدة معاني تعكس جمالية الذات وما يفيض عنها من مفردات تغالبها النزعة القومية الواضحة وبصيغة الافعال القوية التأثير مثل :ينخسف، ينهمر، يذبح، يصيح، ينزف لتتلامس القضايا الموجعة في نفس الشاعر مع وجدان القصيدة القومي الذي وصل الى جماجم قانا التي سنكمل معها مشوارنا الاستكشافي مع قصيدة ديانا .  
من الطبيعي ارتباط الشاعر بالبيئة التي خرج منها ، وجبال الاربعين التي ترتبط ببعضها في ارض جبلية نشأ منها شاعرنا جعلته من المتمسكين ماديا ومعنويا وعاطفيا ضمن نطاق لغة الشعر التي يقدمها في ديوانه “قمر أريحا “ ، فشخصية الشاعر في هذا الديوان تميل الى الانغماس بالعروبة وهمومها وقضاياها . انما بحروف جبلية هي اقرب الى البيئة التي افرزت هذه القصيدة في زمن اقتضى ان تنفجر القصيدة وتغرد مع بلابله.  لتكون جبال الاربعين في اريحا التي يشتق اسمها من مدينة اريحا والمشتق اسمها ايضا من القمر والواقعة على الضفة الغربية بالقرب من نهر الاردن،  ليتكون العنوان من استدارات ايحائية تتخذ عدة عناوين من جبال الاربعين التي تمتد وتجمع الكثير من المناطق العربية، وكأنها الخيط الاساسي في ديوان” قمر اريحا “ الغارق في الهموم العربية واتجاهاتها الى جانب الصور العاطفية والانفعالية التي يزينها الديوان والغنية بالتعابيرذات المدلول غير المتعاطف مع الغرب كما بين ديانا وفاطمة ، مما يضفي صفة الوطنية العربية النابعة من نفس عروبية .
يبدو أن الطبيعة هي ملجأ شاعرنا التي يستوحي منها الصور الحية،  لتضيء زوايا قصائده بالحياة من دون تلاشي الذات المتحررة من منطلقات الحياة الثابتة والمغايرة للمفاهيم التي انبلج منها ضوء كل قصيدة تكونت في” قمر اريحا “ او ذاك القمر المطل على الجبال العربية برمتها،  محتفظا بالاستدارة لتكون قمرية في ليالي ديوان انخسف منها القمر في قصيدة “ديانا “ التي تحمل في طياتها سخرية سوداء لفها التضاد بين “فاطمة” و”ديانا “والاختلافات العربية والغربية في المقامات الانسانية والهموم المختلفة بين الغرب والعرب،  وبرمزية الاسماء التي اطل منها على المشكلة الفلسطينية بجرأة مبطنة تميل الى استخراج الرمزيات بحدة يسوقها في قصيدته،  بما حوت من تعابير قوية تهز كيان القارئ،  برقة تنغمس بضوء شعري يتسرب الى عنفوان النفس ، فيشحنها من دون ان يسترضي ديانا ، بل يجعل من فاطمة ملكة يسقط عليها صفات الحقوق المستلبة . فوطأة الانفعالات تشتد في خفوتها التعبيري ، وكأنه القائد الذي يجهز لتعبئة النفوس قبل المعركة بجميل الكلام، وبإظهار صورة المرأة العربية بكل ما اوتيت من صفات تجعلها الاحق بالحياة.