نجيب محفوظ ومرونة النصِّ الروائي
كه يلان محمد
لا تستنفد القراءات النقديَّة طاقات زاخرة في الأعمال الإبداعيَّة المتفردة إذ يتمُّ اكتشاف طبقات جديدة في تركيبتها الفكريَّة والبنائيَّة مع كل قراءة فاحصة لا شك أن ما يضمه أدب نجيب محفوظ من مرونة في التفاعل مع الأفكار والتجدد في الصياغة والمضمون يفتحُ المجال للنظر في جودة نصوصه من عدة المستويات لذلك لا تغادر الاشتغالات النقديَّة كونه الإبداعي وهذا لا يفسر بغلة إصداراته الوفيرة فحسب بل بما تمثله مغامرته من الرغبة لارتياد أرضية بكرة في الكتابة، هذا ناهيك عن ضخ لغته الشعرية المقتصدة بأفكار غير مستهلكة، الأمر الذي يكسبُ عالم صاحب «عبث الأقدار» أبعاداً متعددة.
فإذا كانت الأزمات الاجتماعية والهموم التاريخية والانحلال القيمي مُنطلقاً لسلسلة من أعماله الروائية التي نشرها مواكباً للتحولات التي كان يفورُ بها الواقع، فإنَّه يديرُ دفة اهتمامه الإبداعي نحو منحى مختلف مع إدراكه بأنَّ شكل الكتابة يتبدلُ من مرحلة إلى أخرى وبالتالي لا يصح الاستمرار على منوالٍ قد يكون مُتنافراً مع مفردات العصر ومن الواضح أنَّ فهم الاتجاه في النص الأدبي يستدعي الالتفات إلى الشكل الفني والمضمون الفكري في آن واحد. ينقطعُ محفوظ عن الكتابة لمدة خمس سنوات بعد التغيُرات التي شهدتها مصر في النظام السياسي والتطورات التي تبعت هذا الحدث على الصعيدين الاجتماعي والفكري ويعلقُ على هذا الصمت الإبداعي قائلا: حينما ذهب المجتمع القديم ذهبت معه كل رغبة في نفسي لنقده، وظننتُ أنني انتهيتُ أدبياً، ولم يعدْ لديَّ ما أقوله أو أكتبه».
المنحى الذهني
إنَّ مابدا نهاية للعمر الأدبي لم يكنْ إلا استراحةً فكانت رواية “أولاد حارتنا” فاتحة لجولة إبداعية تؤشر إلى التحولات في اللغة والاستلهام من الرموز الدينية. ومن ثمَّ يختبرُ محفوظ الكتابة بنفس ملحمي كما ترى ذلك في “الحرافيش” لكن ما سُحب إلى طاولة النقد من بين العناوين التي طبعت في غضون سنوات الستينيات هي (اللص والكلاب) و(الشحاذ) و (الطريق) التي دار حولها النقاش. هذا فضلا عن (ثرثرة فوق النيل). تتقاطع اتجاهات هذه الأعمال في الخط الفكري إذ لا يكتفي المؤلف بمعالجة مأساة المجتمع في هذه المرحلة إنما يعالجُ إلى جانب ذلك مشكلة الوجود، والعبث، والمصير التراجيدي.
يشيرُ مصطفى التواتي في مقدمة كتابه “دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنيَّة” إلى اختلاف النقاد في تسمية هذه المرحلة فمنهم من يرى فيها واقعية جديدة كما صنفها الآخرون مرحلة فلسفية أو فكرية أو ذهنية بقطع النظر عن الجدل حول المُصطلح ثمة اتفاق على أنَّ الأعمال المشار إليها آنفاً. تعدُّ ثورةً على مستوى الشكل والمضمون في منجز نجيب محفوظ الإبداعي. ويعتقدُ مصطفى التواتي بأنَّ الأفكار الذهنيَّة المجرّدة حلّت محل الشخصيات وخلت العقدة الكلاسيكية المكان للأطروحة الفلسفيَّة في معطيات تلك الأعمال. إذ تبدأُ حركتها السرديَّة بلحظة انعتاق أو انفكاك من قيدٍ ما. ففي “الطريق” يخرجُ صابر من طوق الأم. كما أنَّ سعيد مهران ينفكُّ من أغلال السجن ويهرب “عمر الحمزاوي” من قيد الرتابة والالتزامات الأسريّة في “الشحاذ” قبل دراسة مكونات السرد يتناولُ مصطفى التواتي خصائص هيكليَّة للروايات الذهنيَّة مشيراً إلى تفوق نجيب محفوظ في تحديد البدايات الدراميَّة إذ يستبطنُ سرائر الشخصيَّة الرئيسة ومن ثمَّ يتكوّنُ بناء البعد الدرامي بالتدرّج. فالظاهرة التي تشتركُ فيها شخصيات روائيّة في هذه المرحلة هي البحث عن المعني الذي قد يُرمزُ إليه بالأب أو استعادة الابنة والثأر من الخائن كما يُلاحظ ذلك في “اللص الكلاب” أو قد يكون الامتاح من اللذة تعبيراً عن الشوق العارم للتعافي من الخواء مثلما يجسّدُ عمر الحمزاوى هذا المسعى في
“الشحاذ».
اللا طريق
الملمح الأبرز في المبنى الحكائي لروايات نجيب محفوظ هو ما يسميه الناقدُ بالإيهام الذي يعرفهُ بانفتاح كاذب يُعقدُ عليه الرهان لتجديد الدفع والحركة في الرواية إذ يُخيلُ إليك بأنَّ عقدة صابر تنحلُّ عندما يتعرّفُ على إلهام وتنتهي أزمة سعيد مهران بعودة سناء ويتذوقُ عمر الحمزاوي طعم الهدوء النفسي مع وردة غير أنَّ هذه اللحظات هي منعرجات على طريقٍ أشبه باللا طريق على حد قول مصطفى التواتي. وتقع في سياق المبحث المكرّس لدراسة شخصيات نجيب محفوظ على جملة من الآراء التي تؤكدُ براعة صاحب “أفراح القبة” في ترتيب الأدوار إذ يعبرُ محفوظ عن الجوانب الخفية في نفس البطل بتجسيدها في شخصيات منفصلة عن كيان البطل. إذن على الرغم من وجود شخصيات موزعة بين مساحة السرد غير أنَّ التواتي يصفُ الروايات الثلاث برواية شخصية واحدة، لأنَّ بقية الأسماء تنسحبُ عنها الأضواء حين تنفصل عن البطل. زيادة على ماسبق فإنَّ الناقد التونسي مصطفى التواتي يجوس في التشكيلة المكانية لروايات محفوظ معايناً التصميم ومايعنيه البعد المكاني بالنسبة للبطل، ويرصدُ حركة الشخصية الرئيسة بين مكانٍ مغلق وآخر منفتح. وبالطبع فإنَّ مايضاعف من المخزون الإيحائي في الرواية هو التفاعل بين عناصرها الهيكلية لذلك لا يكون الزمن بنوعيه الخارجي والداخلي مجرد وعاء للحدث إنما مشارك في بناء المستوى الرمزي وتفعيل الطاقة الإيحائية في النص. ومن جانبه فَرَدَ مصطفى التواتي مساحة من دراسته لمفهوم الزمن في الثلاثيّة “اللص والكلاب ، الطريق، الشحاذ” متتبعاً المفردات التي تؤطر المستوى الزمني في أجواء كل عنوان على حدة. ومناقشة تقنية وجهة النظر جزء محوري من دراسة التواتي إذ يوافق تودوروف في قوله بأنَّ رؤيتين مختلفتين لحدث واحد تجعلان منه حدثين مختلفين. يضيفُ المؤلف موضحاً بأنَّ وجهات النظر تحدد شكل العلاقة بين الراوي والشخصية كما تُحددُ الطريقة التي يتلقى بها القارئ المادة المروية.
العبث
قد تكون فكرةُ الانتحار عزاءً للشعور بالتوتر الناشب من خيبات الأمل، ولكنها ليست بديلاً وحيداً فإنَّ اكتشاف اللامعقول وانعدام المنطق قد يخففُان من محنة الوضع الإنساني. من هنا نفهمُ كلام نجيب محفوظ بعد صدور رواية “اللص والكلاب” (ليس أمامي إلا أن أنتحر أو أتحول إلى العبث) فعلاً فكانت الرواية مُتنفساً للأفكار التي اختمرت في ذهن الكاتب وتعبيراً واضحاً لهشاشة الإنسان.عليه فإنَّ محفوظ يحملُ طبقة المثقفين مسؤولية التحلل.
لعلَّ مشهدَ العوامة في رواية “ثرثرة فوق النيل” وما يسودُ وسط هذا المكان المتأرجح في الفوضى إدانةُ قاسية لظاهرة الإزدواجية الفكرية. إذن تتصدرُ الهموم الوجوديَّة برنامج نجيب محفوظ في مرحلة مابعد الواقعيّة.
إذا كان المجتمع هو الديكور الرئيسي في المرحلة الاجتماعية فإنَّ الفكرَّ برأي غالي شكري يكونُ بمثابة العصب الحي في روايات الأطروحة والحال هذه فمن الطبيعي أنَّ يأخذَ البعد الفكري الأولوية في دراسة روايات نجيب محفوظ الذهنية. لم تختلف العناوين التي حددها الدكتور حسن حماد لاشتغاله النقدي المعنون بـ”البطل العبثي في روايات نجيب محفوظ” عن اختيارات مصطفى التواتي غير أنَّ حماد أضاف “ثرثرة فوق النيل “إلى محترفه بدلاً من “اللص والكلاب” وهو يبحثُ في مدخل كتابه عن جذور الفكر الوجودي وما تعني الحياة لأتباعه من العبث والعدميَّة فالإنسان برأيهم محاصرُ بالتقاليد والإكراهات الطبيعية من الزمان والمكان صحيح أنَّ الفلاسفة الوجوديين يلتقون في نظرتهم العدمية للحياة لكن قد يكونُ هناك اختلاف في التعبير عن هذا الشعور. ومن الخطأ أن يفهمَ من العبث معنى اليأس والاستسلام أو الركود. يناقشُ حسن حماد في الفصل الأول أزمة صابر بطل رواية “الطريق” تبدأُ رحلته الحافلة بالاحتمالات والانتظار عندما تخبرهُ الأم بسيمة قبل موتها بأنَّه ابن لـ”سيد الرحمي” وهو من الوجهاء وبذلك لا يشغل صابر سوى التعقيب عن أثر هذا الشخص بعدما يفقدُ حاضنته الأولى متنقلاً إلى القاهرة حيثُ تتنازعه إرادتان الأولى تشدهُ إلى القاع وتذكره بالواقع الذي نشأَ فيه فيما الإرادة الثانية التي ترمزُ إليها شخصية إلهام تومئ نحو تداعي الأمل الذي يعيدهُ إلى الماضي. قبل أنْ ينتهي المطاف بصابر إلى مصير تراجيدي ثمة مؤشرات في فضاء الرواية تستدلُّ بها حسب رأي حماد على أنَّ البطل لا يختارُ بداية جديدة مع إلهام بل ينجرف مع كريمة ولا يمكن الانفلات من أسرها مع أنَّ كلمات أمه “بسيمة” تترددُ في أذنه (اِعشقْ كلَّ يومٍ إمرأةً ولكن لا تجعلْ لإحداهنَّ من سلطان عليك”، ما يرشحُ من مناجاة صابر مع نفسه يختصرُ حدّة مأساته “إنَّه هو المُحتاج إلى الغائب وليس العكس وأنَّه لايحتاجُ إليه حباً في الحرية والكرامة والسلام فحسب وإنما خوفاً من التردي في الجريمة). لايتجاهلُ حسن حماد البعد النفسي في آليَّة القراءة إذ يرى بأنَّ معاناة عمر الحمزاوي مصدرها هو الفراغ الفكري والخواء الروحي لافتاً إلى ما يقوله فرويد تأثير الفكر في الصحة النفسيّة “الإنسان قوي طالما يتمسك بفكرة قوية” واللافت فيما يقدمهُ كل من مصطفى التواتي وحسن حماد هو أن كليهما يجدُ في شخصية عمر الحمزاوي واصطدامه صورة حية لأفكار المفكر الفرنسي إذ ينشدُ الحمزاوي الهدوء واليقين في المتعة والنشوة الجنسيّة. كأنّهُ يطبقُ مبدأ صاحب “كاليغولا».
(ليس في هذا العالم إلّا حب واحد، فعناق جسد المرأة هو عناق لهذا الفرح الغريب الذي يهبطُ من السماءِ إلى البحر)، يلاحظُ التواتي بأنَّ محفوظ لا يقدمُ شخصية المومس في إطار الأحكام والقيم الاجتماعية بل تستشفُ تعاطفاً مع مشاعرها الإنسانيَّة المتسترة وراء التبهرج السطحي. يشار إلى أنَّ مناقشة دور العلم في الحياة المُعاصرة من المواد المكونة لأفكار نجيب محفوظ الروائيَّة والمتابع لرواية “ثرثرة فوق النيل” يتفاعل مع عالمٍ يعجُّ بالأفكار والسجالات الفلسفيَّة غير أنَّ كل ذلك لا يكونُ على حساب الصيغة الفنيَّة، مجمل ما يمكن قوله عن النقد الروائي أنَّ هذا المعترك يتطلبُ وعياً مرناً ومتفاعلاً مع سياقات معرفيَّة متعددة.