سعاد البياتي
في صغري كنت متعلقة بأبي كثيراً، وهو يضمر لي حباً لامثيل له، مما كان يثير زعل اشقائي وشقيقاتي، فالبنت الاصغر في الاسرة تجذب محبة واهتمام الجميع لا سيما الأب، ولأنني الصغرى والمدللة عند أبي، صرت لا أعير اهمية للكثير من الأشياء، أولها احتياجاتي وآخرها ثقتي العالية، التي رسخها أبي في شخصيتي لمراحل عمري المختلفة، لذا ومن دواعي سروري أن أذكره ولو بمقال صغير، فالكثير من الاقلام كتبت عن الأم ودورها المهم في الاسرة، وما تستحقه من تكريم وعرفان من قبل اسرتها، بيد أن صورة الاب غابت عن سطورنا، أو حتى عن تحقيقاتنا في شأنه الكبير في حياة كل من أبنائه وزوجته، قد لا تكون هناك أسباب منطقية لذلك، فهو حتما عمود الخيمة التي يستقر تحت سقفها أفراد الاسرة، فلا عتب للآباء عما نكتب، ونحن نخبئ صورته العظيمة في عقولنا قبل قلوبنا، أو قبل تعليقها على جدار إحدى غرف البيت تثمينا لوجوده وقيمته المعنوية، من منا لا يحمل ذكريات جميلة وجادة عن الشخص الذي علمنا معاني العيش بكرامة وأن الحياة مدرسة نأخذ فيها دروسا كبيرة، من خلال جهاده المستمر في إعدادنا بالشكل والصورة، التي يتمناها فينا، من تربية وتعليم وغيرها من متطلبات العيش بسلام.
ولم تقف حدود بصمته الحانية عند ذلك الوصف، بل تعداه إلى شوقنا الكبير لكلماته وجلساته، التي تغيب عنا احياناً بدافع العمل وغيابه المتكرر يومياً عن العائلة، فيكون الاشتياق له مضاعفاً متحدا بقوة مع ما نكن له من احترام وحب، قد لا نبينه له بمرات عديدة، عكس ما نسرده للأم التي نغرقها بكلماتنا العاطفية في كل لحظة، لقربنا لها وتواجدها معنا باستمرار، وإن كانت الأم مصدر الحنان، إلا أن الأب يجمع بين الحب والحزم والخشية، علينا بكتمان لا نفقهه الا حينما تصيبنا بعض دائرة السوء لا سامح الله، ومهما أرادت الأم أن تغطي مكان الأب، لن تتمكن من سد موقعه. الأب مصدر الأمان والحكمة التي نتعكز عليها في امورنا، قد نشعر احياناً وكل الاحيان بحاجتنا إلى قدوة، وإلى خبرة أمام تداعيات الحياة، وما تتخللها من معاكسات تدمر تفكيرنا، الذي يعجز عن إيجاد حلول، فبوجوده تذوب المشكلات ليكون حاضراً بالروح والفكر، فهو من أكثر الشخصيات المؤثرة في حياة الإنسان، حيث يأخذ غالبية صفاته الشكلية وطباعه عن أبيه وأمه، وهو صاحب فضل عظيم يعجز اللسان عن شكره وتقديره، وقد يحل بنا ألم دائم إذا فقد أحدنا اباه، إحساس لم يعرفه إلا من جربه وعاشه، وذاق طعم مرارة اليتم.