وجوه نازلة

منصة 2023/06/20
...

  سليم سوزه
لا أكره شيئاً قدر كرهي الانتظار في الدوائر والعيادات وصالونات الحلاقة. الانتظار زمنٌ تجلط في عروق الملل، ولا يكسر وحشة هذا الملل سوى النظر إلى شاشة الهاتف الصغيرة وقراءة ما يمكنه قتل الوقت الثقيل هذا. كنت قد نسيتُ هاتفي في المنزل حين ذهبتُ إلى مختبر فحص الدم لمعرفة أرقام السكّر المتراكم في عروقي. فحص روتيني أجريه كل ستة أشهر لأعرف وتعرف طبيبتي مقدار ما ناله السكر اللعين من أعضائي الحيوية.
جلستُ إلى جوار عجوز ثمانينية، ومن خلفي مراهق يكاد الشَعْر يرسم شاربه ولحيته، ومن حولي عدد كبير من الذين يرومون معرفة أوضاعهم الصحية عبر تحليل دمائهم. كنتُ أنتظر دوري في الفحص، ولم أدرِ أنني سأعاني عزلةً هادئة جداً كالتي عانيتها.
لم أكن أرى سوى وجوهٍ نازلة تحدّق في هواتفها كما يحدّق الذئب في شاته قبل الانقضاض عليها.
لقد وفّرت التكنولوجيا فرصة الانتقام من الانتظار. لم يعد الانتظار مملاً في ظل هواتفنا الذكية. كان جميع الحاضرين مشغولين في تصفّح شاشات هواتفهم، إلّا أنا الذي نسي هاتفه الذكي ذاك في المنزل، وصار لا عمل له سوى النظر إلى وجوه الجالسين، لا غير.
أكره الانتظار في هذه الأمكنة، رغم أنه يوفّر لي فرصة إنهاء كتابة مقالة كاملة في جلسة واحدة.
في العادة، عندما ينال الانتظار من روتين يومي، أعمد إلى قراءة منشورات التواصل الاجتماعي عبر شاشة هاتفي، أقرأ كتاباً الكترونياً، أو أكتب نصّاً أو مقالة بغية قتل الوقت حتى يحين دوري. تذوب ساعات الانتظار تلك في شاشة هاتفي سريعاً. لا أشعر بالوقت ما دام رأسي نازلاً نحو هاتفي. لكن ماذا أفعل الآن وهاتفي ليس في يدي؟
في غياب هاتفي هذا، اضطررت إلى مراقبة تلك الرؤوس النازلة فحسب. كان يوماً طويلاً للغاية، قَطَعَتْه العجوز الثمانينية بسؤالٍ غريب. دارت وجهها نحوي وقالت انت تشبه حفيدي! من أين أنت؟ قلت لها أنا من العراق أصلاً، سيدتي.
قالت آه. أنا آسفة. غزونا بلدكم وشرّدنا رجالكم ونساءكم على البلدان كافة.
قلت لها لا داعي للأسف، فلستِ أنتِ مَن اتخذ قرار الحرب ذاك. رجعتْ إلى هاتفها، ورجعتُ إلى عزلتي انتظر أن تنادي الممرضة على اسمي، وأنا أطالع الوجوه النازلة في غرفة الانتظار المملة تلك. لقد أصبحنا جميعاً كائنات الكترونية ذا وجوه نازلة نحو هواتفها الذكية. لم تعد حياتنا الواقعية إلّا محاكاة لحياتنا الافتراضية فحسب، وليس العكس.
ثمة وجوه نازلة في المقاهي والمآتم والمستشفيات والمدارس والمنازل، وحتى المساجد، رؤوس خطفتها الهواتف الذكية بمواقع تواصلها الاجتماعي من محيطها العائلي والاجتماعي. لم يعد الأب يتواصل مع عائلته إلّا عبر «الواتساب»، ولم يعد الابن يحكي مع أبيه أو أمه إلّا عبر الفيسبوك.
قبل فترة، كتبتْ ابنتي البكر رسالة طويلة لي عبر الواتساب، تطلب فيها مني شراء حاسوب جديد لها بعد أن تلف حاسوبها القديم المتهالك. كانت رسالة رشيقة ومؤثرة للغاية في عباراتها وطريقة توسّلها، يصعب على أبٍ تجاهلها.
لِمَ لم تطلبي مني ذلك وجهاً لوجه؟ سألتُ ابنتي في ابتسامة خفيفة طغتْ عليها ملامح وجه الابوّة الجاد.
قالت ضاحكة، أنا أشجع وأكثر جرأة عندما أكتب إليك، لا عندما أتحدث معك.
لقد خشيتْ ابنتي نظرة الأب فيَّ، فذهبتْ نحو أسهل طرق التواصل، ألَا وهي الكتابة لي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تلك الكتابة التي تُشعر صاحبها بشيء من الشجاعة والجرأة يفتقد إليهما في عالم الواقع المحكوم بنظرة الشخص المقابل وتعابير وجهه وحركات يده ولغة جسده إلى جانب حديثه المباشر.
هكذا هي الكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي، شجاعة وجرأة طالما لا ينظر إليك المرء حين يكاتبك.
لقد حوّلتنا الهواتف الذكية إلى كائنات افتراضية.
قتلتْ فينا روح التواصل الطبيعي والواقعي بوصفنا أفراداً وعوائل ومجتمعات. رسمتْ حدودها وقواعدها فينا. صنعتْ منّا وجوهاً نازلة تأبى أن تفارق شاشات هواتفها الصغيرة، حتى عند الاجتماع مع الأسرة على مائدة ألذ الأطعمة وأشهاها. إنها، باختصار، قرّبتْ البعيد في العالم الافتراضي وأبعدتْ القريب في العالم الواقعي.