حينما دخلت الى عوالم ديوان (أغني حين أراكِ مبتهجة) للشاعر رياض الغريب، الصادر عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق/الطبعة الاولى2018 ، وجدت من الاولى ان اشير الى حقيقة تواضعت عليها النقودات الحديثة، الا وهي ان الشاعر الحديث يمتلك طاقة تخيلية كبيرة على خلاف شاعر الاسطورة قديما، نتيجة ما حققه الإنسان من تقدم مذهل في الميادين كافة، وكلنا يعلم أن الخيال وظيفة من وظائف العقل..وأن العقل يوظف التراكم المعرفي والفني والتقني...ويوظف الذاكرة المفعمة بالإنجازات، في قيامه بوظائفه..ومن ارسطو فصاعدا بدأ الفكر يفترق عن الشعر لانصراف الانسان عن عالمه الداخلي «ذاته» الى العالم الخارجي بغية معرفة المزيد عنه والتحكم فيه.
بدءا من هذا الفهم، لاحظت الشاعر الغريب يكتب بوعي تالي لتلك اللحظة الشعرية، التي تباغته دون سابق انذار، ثم يقوم بتوجيه رؤياه لتأسيس معانيه، وتأثيث لغته ان تكون داخل الفضاءات الشعرية بمفردات سكنت اجواء الديوان، وخلقت اسئلة متوالدة، ربما لانجد لها حدودا، بل هي اسئلة تتناسل في ذهن متلقي تلك القصائد، ونحن نقر ان الشعر اسئلة مثارة..لماذا؟ لانه ثورة ضد مقاسات اللغة وقوانينها المنطقية، التي تواضع عليها الجميع، لذا الشاعر الغريب استخدم كلمات: (الروح، الغناء، الاحلام، الحب/العشق، المرض، الجنون، السحر) وصاغها فضاءات شعرية ولغة حملت تشظيات اسئلة متوالدة كما قلت، فجاءت قصيدة (البابلي)، حاملة معها حيرة الاسئلة في معادلة : الشاعر+ هي = البابلي المسكون بالسحر والجنون/بالعشق والمرض، لكنه في مقابل هذا، هو موسيقى خارجة من طين الله/والطين رقيم الحب، فقال عن البابلي: (حين يعشق يمرض/يمرض جدا/يلقي وردة من احلامه في النهر/يبعث بنذور كثيرة/لمعابد بابل/ويدعو ان تنام معشوقته بين ذراعيه الى الابد/البابلي موسيقى تخرج من طين الله/هو طين ورقيم حب)، ثم صاغ المراثي (اغنية عن البلاد) لماذا؟ لانه يقول: (بلادي التي تشظت فوق طاولة الغروب/ننام كي لانراها/ونصحو كي نقرأ فوق حجر الحلم/مراثي الاخرين/عن بغداد/وتقاسيم عودها المجنون في قلبك الصغير).
ومن هذا نحاول الاجابة الافتراضية، التي تدور حول ماطرحه الشاعر، فلو قلنا في وظيفة العقل، التي هي تخليص الانسان من التشيؤ وتحريره من قيود التناهي الحسي، وبالتالي وضع الوجود الحسي موضع التساؤل والشك، بينما وظيفة الشعر تلتقي مع العقل وتتجاوزه الى التحرر من التناهي المعقول، اي التخلص من سيطرة العقل على الوعي الباطن، وعي انتاج التخييل، (محفزا إرادة الإبداع على الخلق الذي ينحرف عن المثال والنموذج والنظام، وهو بذلك يكشف في الظاهرة المعقولة عن جانبها الأكثر إعتاما، داعيا في الآن ذاته إلى وجود لامتناهٍ يحمل سيمياء التعددية التخييلية، حيث الأشياء تكشف عن ذاتها بالخروج عن دائرة المألوف المعقول،)، هذا الصراع الذي قاده الشاعر الغريب بين المعقول واللامعقول، كشف لنا مستوره المتمثل بانه شاعر قلق يبحث عن حقيقة الحياة وجمال الاكوان المحيطة بها، مؤمنا بالعالم الرومانسي، الذي يؤمن بمعرفته البسيطة للواقع من خلال حواسنا الخمسة، لكننا لازلنا نشغل أنفسنا، الى حد كبير، بالحقائق العلمية والقيم المادية، التي نكتسبها بحواسنا، وسلمنا بأننا لا ندرك الحقيقة الواسعة، التي تقع خلف حدود حواسنا وتحقيق السيطرة الكاملة عليها، ألا إذا تعلمنا الثقة بغرائزنا وطاقاتنا ورؤانا التخيلية، وبقي الشاعر قلقا في منطقة الخيال، ومدى علاقته بالواقع، فالخيال يدفع الفرد إلى الإبداع في شتى المجالات العلمية والعملية وفي جميع شؤون حياته فالعملية الإبداعية لا تنشأ بمعزل عن الخيال الخصب، فابتداع كافة وسائل التكنولوجيا والأعمال الأخرى الأدبية والفنية، هي نتاج مخيلة الإنسان الإبداعية ويتطلب خيال الفرد أن ينطلق من دون قيد أوحدود في حياة الفرد خاصة في المراحل الأولى من حياته، وذلك ليحقق ذاته ويشبع حاجاته في أسلوب إبداعي غير مألوف ويحتاج الخيال من الإنسان أن يسخر جميع حواسه لتلك اللحظة/ لحظة التخيل/، وبقي الشاعر الغريب يعطي خلطات الواقع المتخيل، كما في قوله:
(أنا، وأنتِ
وتلك الموسيقى التي تنزفنا
وبعض المارة
يلتقطون صورهم من الارصفة
أعني جثثهم المعرضة لانفجار مباغت
الوطن بغداد
لا ادري ربما اختلط الامر علينا
الوطن أنتِ..هكذا اخترت
يوما ما
عندما مزقتني شظاياه
تناثرت عليك)
وهنا يقرن الواقع الموجع، ويُطعم هذا ببعض جماليات الحياة من موسيقى ورومانسية، كالموسيقى، وقوله: أنا وأنتِ، ليثبت ان الحب وهي ايضا وطن واطمئنان، لذا يقول: (اشرب قهوتي واغني)، محاولة منه للابتعاد عن اوجاع الواقع
وهكذا الشاعر رياض الغريب بقي يردد: (أغني حين اراكِ مبتهجة) عنوان ديوانه، الذي رسم من خلاله لوحة الحياة المحاطة بالسواد، لكن هو يغني والاولاد يلعبون بالحديقة، ليؤسس على ان الحياة جميلة، رغم ما فيها من سواد..