الاستلاب بالمباعدة في المجموعة القصصية «رمادي داكن»
ثقافة
2019/04/26
+A
-A
د. نادية هناوي
التقنين أسلوب من أساليب البناء يعيد إنتاج الكلام كتابيا عبر تنظيم فعل الخطاب، كي ينجز كحدث ويفهم كمعنى. وإذا كان الخطاب واقعة فيها إسناد بين ناطق ومنطوق بأفعال تمريرية وأخرى تعبيرية؛ فإن الذي يعتري المنطوق حين لا يكون ناطقا أن الأفعال التعبيرية ستغيب عن الواقعة، لتحل محلها الأفعال التمريرية التي بها يمرر المتكلم المعنى الذي يقصده تحت غطاء معنى آخر، موكلا مهمة التمرير هذه إلى ما حوله من أشياء جامدة غير عاقلة التي ستستلب منه الهوية والفاعلية.
المباعدة الاسلوبية
لكن ماذا لو أراد السارد تشظية الشخصية بقصدية، تجعل الصمت نصيبها ؟ اعتقد أن ذلك ممكن عبر جعل فواعل سردية أخرى تمارس سلطتها كتابيا على الشخصية موغلا في تأزمها واستلابها، محجما دورها ومهمشا فاعليتها. كأن يدع المكان بموجوداته الحية وغير الحية تمارس تأثيرها الفاعل عليها، على وفق نظرية الأثر الأدبي وما عبر عنه ريكور بـ( المباعدة الأسلوبية) التي عدها شرطا في تأويل ما ينبغي على الفهم أن يهزمه.
وبإسناد ادوار فاعلة لموجودات المكان يتحقق العبور من الكلام إلى الصمت فتصبح الشخصية أقل قدرة على الكلام وأكثر إحساسا بالاستلاب في رؤيتها التدميرية للعالم. وبهذا تحقق المباعدة الأسلوبية هدفها في عدم تمكين الشخصية من إثبات كينونتها، كترميز إلى ما يعيش فيه الإنسان المعاصر من استلاب، وكان هربرت ماركوز قد وصف هذا الإنسان بأنه ذو بعد واحد داخل عالم أضحت فيه الثقافة بسبب التكنولوجيا صناعة، ولم يعد عالم الأدب والفن عالما متعاليا.
وإذا كانت القصة القصيرة هي فن الاختزال المعبر عن لحظة مضغوطة بالاحتدام الشعوري ومشحونة بالأحاسيس المتضاربة؛ فإنها ستغدو أنسب فن في تجسيد المباعدة. وهو ما نلمسه في المجموعة القصصية( رمادي داكن) للقاص الكويتي طالب الرفاعي التي فيها تهيمن موجودات المكان على الشخصية، إمعانا في توكيد استلابها وكتدليل على دونيتها.
وباستثناء قصتي ( وضحى) و(محيسن ) تغدو المباعدة خصيصة فنية في قصص المجموعة تراهن على جدلية الكلام/ الكتابة، حيث الكلام هو الحدث والكتابة هي المعنى، والهدف انجاز رؤيا للعالم لغوية. أما الشخصيات فليس لها سوى التهميش، وقد أضحت مراقبة ومرصودة من قبل السارد تارة، ومستجوبة أو متهمة تارة أخرى. وبسبب ذلك تبدو القصة القصيرة أكثر توترا وضغطا على قارئها من الرواية، إذ كلما ضاقت المساحة ازداد الضغط.
ومن وسائل التقنين بالمباعدة استعمال ضمير الخطاب الذي يجعل القارئ متعاطفا مع الشخصية المغمورة، متعمقا في تأمل حالها. وهذا ما نجده في قصتي( قط صغير) و (دويتو) حيث الشخصية تتراجع مخذولة أمام سارد يبغي استجوابها، تاركا الأشياء مؤثرة على الشخصية بطريقة سلبية، فتتأزم بخذلانها.
من الدرامية الى التصويرية
ولأن موضوع القصص جماعة المغمورين، لذلك لا يخاطب السارد شخصيته كي يجعلها ناطقة، لأنه يريدها صامتة أصلا، معطيا للمكان أهمية، وهذا ما نجده في قصتي ( قتل حلو) و(الثالث) اللتين تنفلتان من الدرامية باتجاه التصويرية حيث الحائط( يحمي ظهرك ) والعينان الباسمتان تحرشت(بشيء غرر بقلبك) وصفحة على شاشة الكومبيوتر( تنظر إليك ببعض سطورها) والهدوء وروائح الحديقة والبكاء والسؤال والضيق( تمدد على الكنبة ..راح يبحلق في وجهك ). وفي قصة( سأكون) يباغت الصوت الشخصية، فيجعلها تتراجع في تحاورها مع الآخر وقد ازداد ضيقها(جمرات النار تسعر في أصبعيك وقلبك)
أما استعمال ضمير المتكلم، ففيه تتجلى هيمنة المكان على الشخصية التي اسند لها الكلام، لكنها تظل عاجزة عن رفع القهر عنها أو تقليل ضغط الأشياء على عالمها، الأمر الذي يفقد الشخصية إحساسها بكينونتها، كما في قصة( لحية وشارب) التي وإن كانت تسرد بلسان الزوجة إلا إن ما حولها يهيمن عليها، فيرسم النوم والخلاف والقهوة والابتسام وغيرها، صورة للشخصية وقد انحصرت في زاوية ضيقة.
ولا يخلو استعمال ضمير الغائب من توكيد سطوة المكان بأشيائه على الشخصية مباعدا بينها وبين هويتها، ففي قصة (رسائل موج) نجد قرص الشمس هو المهيمن على مستوى الخطاب، بينما مثل الظل في قصتي ( لا يتحرك ) و( ظل على الجدار) مهيمنا اسلوبيا.
واستعمال الوصف وسيلة من وسائل التقنين الذي به يتم تنظيم المباعدة بالمسافة بين الأحداث والأقوال، وسواء كان الوصف للأشياء تصويريا أو كان تفسيريا؛ فإنه سيصعد مستوى التأزم، جاعلا الإطار السردي العام محتدما باستلاب الشخصية، معيدا إنتاج وجهة النظر كوسيلة تأليفية تكتسب قيمتها ومغزاها من انتسابها إلى ظاهرة التباعد .
وهذا ما يحتاج الى توظيف سارد مراقب خارجي، وتهيمن على قصة( قرب المدخل) صورة وصفية تفسيرية بلغة مستعارة، تجعل الجسد مهيمنا على الرجلين رجل الشاي ورئيس العمل.
وإذ يصبح الواصف موصوفا والموصوف واصفا، فإن المؤلف يظل بعيدا بلا أدنى تدخل، لتكون وجهة النظر تعبيرية لا إيديولوجية، كما أن المزامنة طريقة حسنة في المباعدة بين الواصف والموصوف على الصعيد المكاني، اختراقا للشخصية من الداخل والخارج معا.
وهذا ما يشعرها بمزيد من الاستلاب والاغتراب، حتى كأن الأشياء أكبر منها. وتخلي السارد عن شخصيته يتيح للوصف أن يعرضها مغمورة ومسحوقة في لوحة بلونين اسود وابيض، يمتزجان في لون واحد لا يستدل منه القارئ على أفكاره، غير واصل إلى معنى نهائي.
الوعي واللاوعي
ويجعل الوصف القصة لوحة فيها اللحظة مسرودة من دون حركة بأبعاد مكانية ثلاثية تستغور الوعي واللاوعي. وإذا كان البعدان الاول والثاني للوحة منظورين كواصف وموصوف؛ فإن البعد الثالث سيكون هو الصمت الذي يخيم كالظلام على اللوحة تاركا اللامعنى قريبا جدا من المعنى. وهذا النوع من التقنين للوصف هو كتابة تجريبية لا يحتاج من سارد القصة القصيرة أن يحمل كاميرته مسجلا لقطات تستغور الشخصية من الداخل، بل عليه أيضا أن يصور العلاقة بين الشخصية والعالم كعلاقة فوضى وعدم رضا.
وهذا ما نجده في قصة(زجاج أعمى) القصيرة التي فيها الموظف يترقب وصول رسائل الكترونية، عليه أن يجيب عليها وإلا فقد عمله. وهذا ما يشعره بالاستلاب، فيتسرب إليه ملل وضيق، يباعده عن إنسانيته في ظل عالم رقمي يغص بالشاشات والروابط والشبكات.
وبالابتعاد عن الدرامية تصبح رؤيا العالم جديدة ومتحررة من اللاجدوى والفوضى اللتين تحاول القصة القصيرة إعادة ترتيبهما لغويا. بهذا تستطيع القصة القصيرة أن تميز نفسها عن الرواية متفادية الاعتماد على الزمان واصفة نفسها خارجه، معتمدة على المباعدة الأسلوبية، تعبيرا عن انهيار الشخصية وهامشيتها التي أفقدتها البريق والسحر.
والمباعدة عن حركة الزمان بوصف المكان، هو الذي يحفظ للأشياء سيرورتها لتكون القصة نارا تتدثر برمادها بتعبير اوكونور، وهذا ما جعل رؤيا العالم في المجموعة تباعدية، ليس فيها للونين الأبيض والأسود وجود، كونهما امتزجا تضادا وتقاطعا حتى صار الواقع رماديا داكنا.