خلخلة الماضي

آراء 2019/04/26
...

نصير فليح
لعل التأثير الأبرز للاحتجاجات الشعبية التي تكاثرت في العقد الأخير من الزمان في عالمنا العربي هو خلخلة البنى السياسية والفكرية القائمة. فمنذ ما عرف بــ”الربيع العربي” الى آخر الاحتجاجات التي تشهدها الجزائر والسودان، ظلت النتائج مضطربة، وأفضت الى ملء الفراغ السياسي الجديد بطرق شتى. ورغم صعود بعض قوى الإسلام السياسي الى الواجهة في بعض الحالات، فإن تداعيات الأحداث اللاحقة منعت تلك الحركات من الثبات، وأملت عليها سيناريوهات متنوعة لم تكن ترغب أو تفكر فيها حتى. كما هو الحال مع تونس، مثلاً، بعد صعود “حركة النهضة”، ثم اضطرارها للتراجع خشية من طريق مسدود ومصير مشابه للإخوان المسلمين في مصر.
إن سقوط الأنظمة المعمرة التي أعقبت مراحل التحرر من الاستعمار، رفع الغطاء عن التوترات الكامنة التي كانت تعتمل وتختمر تحت السطح لعقود طويلة. وحدث هذا التغيير في ظل أزمات متفاقمة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا أيضا. فتداول السلطة ظل أمراً مغيباً أو شكليا، وأوضاع الشعوب وآفاقها ظلت معتمة، مما ساعد على نشوء قوى إسلامية أو إسلاموية في جو الإحباط العام هذا، وصلت الأمور ببعضها الى تقديم نسخ من الإسلام السياسي هي الأشد شناعة على الإطلاق.
أما الحركات القومية واليسارية التي استحوذت على منصة المشهد السياسي قبل ذلك، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد تخطتها الأحداث، متراجعة على مستوى الوعي العام مثلما تراجعت سياسيا. ولم يبق سوى الأنظمة التسلطية، بمسمياتها المختلفة، الجمهورية او الملكية، التي ظلت متشبثة بالسطة رغم تصاعد مياه الأزمات من تحتها ومن حولها من كل مكان، الى أن بدأ المدّ يأتيها من كل صوب.
ماذا يمكن أن نتوقع وفي وضع كهذا؟ عندما تجيء أمواج التغيير للإطاحة بهذه الأنظمة، سوى مرحلة مليئة بكل أنواع الصراعات المتراكمة والمؤجلة، والتطلعات المندفعة التي تتباين من أقصى آمال التحديث والازدهار، الى أقصى النزوع النكوصي السلفي حنينا الى ماض ذهبي موهوم مفترض؟
لكن المخاض المتولد عن الحركات الاحتجاجية، رغم تعذر توليده لأنظمة جديدة حداثية مستقرة بسرعة، فان تحريك المياه الساكنة بحد ذاته يدفع الى مخاضات جديدة، تؤثر في الوعي العام، وتمهد، رغم الصراعات المريرة أحياناً، الى حقبة جديدة لتخطي الماضي في نهاية المطاف. هذا ليس مجرد رأي أو توقع ارتجالي، بل شيء من تمعن في دروس التأريخ وعبره. فكل التغيرات الكبرى التي تحولت فيها الأمم والشعوب من حال الى حال، شهدت صراعات ومخاضات، حادة غالباً. وفي وضع مثل وضع عالمنا العربي، يستبعد حدوث التحولات التدريجية، لمجمل ضروفه الداخلية والخارجية، السياسية والاجتماعية والثقافية. مع هذا، فإن أول الغيث قطرة، كما يقال، ويظل الرهان الأهم هو الوصول الى واحة من الإستقرار والازدهار بأقل الخسائر الممكنة.