مهدي علي ازبين
يواصل الناقد محمد جبير مساعيه في رفد المشهد الثقافي بدراسات تفتح آفاقاً جديدة في ميدان النقد، مسلطاً الضوء على جوانب غفلت عنها الذاكرة النقدية أو تغافلت عنها، فيتصدى بموضوعية لتحمل مهمة الكشف والاكتشاف واطلاق مجساته لقراءة متجددة لتجارب لم تنلْ استحقاقها.. وفي كتابه الذي بين أيدينا (جوار النص/ التشظيات السيرذاتية في النص السردي-غانم الدباغ أنموذجاً)، يتناول تجربة مهمة ويطبق عليها اشتغاله التجريبي، متتبعاً سيرة المبدع الذاتية، من خلال الحفر في نصوصه، والوقوف على جوانب تخص تكوينه الشخصي وبيئته التي ترعرع فيها.
وقد قسم مشروعه الكتابي هذا في مسارين، الأول فيما يتعلق بمنجز السرد العراقي في بداياته حتى نشر أول قصة مختلفة للقاص غانم الدباغ، وهو ما احتواه الفصل الأول من هذا الكتاب، أما الفصل الثاني والثالث، فهما من حصة الكاتب، وتفاصيل رحلته الإبداعية.
يقول الناقد في المقدمة إن هناك كتاباً أخذوا في تدوين جزئيات من سيرهم، سواء عن طريق نصوص سردية روائية أو قصصية، أو عن طريق المذكرات الشخصية أو اليوميات أو الكتابة عن شخصيات أثرت فيهم ورسمت لهم الخطوات الأولى في السيرة الابداعية، أما هذه الدراسة فتبحث عن تمظهر التشظيات السيرذاتية في النصوص السردية، التي لا تتحقق إلا من خلال معرفة الكاتب الشخصية أو الاطلاع على بعض تفاصيل تجربته الحياتية.
وقد نشر كثير من الكتاب تجاربهم الشخصية في العديد من النصوص السردية، من دون أن يذكروا ذلك أو يشيروا إلى مواقعها ضمن المتن، ومنهم الكاتب غانم الدباغ، إذ نهل من معين تجاربه الشخصية واستثمر تلك التجارب في نصوصه سردية.
تناول الفصل الأول أهمية التمظهرات السيرذاتية في النص السردي، كونها مرتكزاً أساسياً في بناء النص، وقد شغلت حيزاً كبيراً من مساحة المنجز الابداعي لغانم الدباغ، من خلال مقاطع مجتزأة من تجارب حياتية معاشة، أو مسموعة أو مرئية أو مقروءة، وأصبحت سمة خاصة من السمات الإبداعية التي تميز مجمل كتاباته القصصية، فقد اعتمدت سرديات الدباغ على تجميع التشظيات في جمل تضفي على النص ظلالاً واقعية.
لم تكن لدى الدباغ الرغبة أن يكون كاتباً سيرياً، أو مدوناً لسير الآخرين أو كاتباً لمذكرات، وإنما كان يطمح أن يكون كاتباً واقعياً متجاوزاً، يعيش ليرسم أحلاماً مستقبلية للشخصيات المبتكرة أو المستعارة من الواقع، لذلك كان الصراع القائم ما بين الذاتي والابداعي هو المحفز على انتاج النصوص وإعادة إنتاج بعضها.
ويواصل الناقد محمد جبير بحثه في سفر الدباغ في الذات والابداع، فيذكر عنه أنه ولد في الموصل 1925، وعاش في كنف أمه بعيداً عن أبيه؛ لذا غابت عن قصصه شخصية الأب لتظهر محلها شخصية أخرى هي العم أو الخال، بوصفها الشخصية البديلة لولي الأمر، وهذا ما نجده يتكرر بصورة مستمرة في أغلب قصصه.
وبعد أن تتسع مدارك القاص،
يتعرف على صورة مغايرة للأب، تختلف اختلافاً كلياً عما كان يشاع
عنه من صور مخيفة أو بشعة، لا سيما تلك الصورة الإيجابية التي أدركها اثناء مزاولته التعليم في إحدى قرى
الموصل، وترد إشارات كثيرة بشأن علاقته بأمه في معظم قصصه القصيرة.
وتتمظهر في نص الدباغ السردي الكثير من التجارب الحياتية التي مرّ بها، وهو لا ينكر وجود علاقة متينة بين إبداعه الخاص والسيرة.
إن سيرة الدباغ تتجلى في نصوصه في تشظيات متعددة لتلك المقاطع السيرية، فقد كانت طبيعة تلك التشظيات تبدو في الوهلة الأولى لا رابط لها في المتون السردية ولا تمت للكاتب بعلاقة، وإنما هي لصيقة بالسارد عبر إيهام المتلقي المستخدم لضمير المتكلم، في محاولة لترميم ما يتفكك من مقاطع نصية في متن الحكاية.
وفي نهاية كتابه خلص الناقد محمد جبير برؤى وتصورات منها:إن الدباغ اهتم بتجاربه الحياتية بصورة لافتة للنظر، وكان يعدّها النبع الحقيقي لإبداعه؛ إذ كانت تشظيات السيرة المعين الأساس في كتابة تلك النصوص، وتجلت أو تجمعت في رواية (ضجة في الزقاق).
وأن جوانب أو زوايا الخيال والابتكار في النص هي زوايا محددة لا تتعدى وسائل الربط بين الانتقالات المشهدية في النص السردي، وهي من هذا الجانب تعد مثالاً متميزاً لأدب السيرة الذي كتب بطريقة سردية متميزة وكأنه أدب لا علاقة له بسيرة المؤلف، كما أن الإبداع السيرذاتي يقوم على المزج بين الذاكرة والخيال بغية تفعيل التجربة الذاتية وإيجاد عناصر الخلق والجذب التي تشد المتلقي للتواصل مع التجربة الحياتية في المتن
السردي.
جوار النص التشظيات السيرذاتية في النص السردي- غانم الدباغ أنموذجاً، محمد جبير، دار نينوى، دمشق، 2023.