كاظم لفته جبر
الإنسان كائن حي راغب، خاضع إلى متطلبات الجسد وتحولات الواقع الثقافية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه الرغبة فطرية في الإنسان، إلا أن الفيلسوف اليوناني (أفلاطون) يرى أن الإنسان يشترك مع الحيوانات في جزء من تلك الرغبات، بدليل أن النفس الإنسانية تحمل زوجا من الرغبات، الأولى:
إنسانية تكون موجودة في الوعي وأثناء يقظة العقل، والثانية: بهيمية متوحشة تظهر أثناء النوم، ولا تخجل من فعل الجريمة والفواحش. لذلك تنقسم إرادة العيش في الإنسان بين الحاجات والرغبات.
ويمكن تعريف الرغبة: بأنها ميل وانصراف النفس نحو الأشياء والطمع فيها. وبما أن الرغبة ميول، فالميول نوعان: الأول: بايولوجي غريزي مثل الأكل والشرب وتسمى الحاجات، والثاني: دوافعه ثقافية مكتسبة تسمى الرغبات. مثل رغبة التحلي بالثقافة الإسلامية في كل الأمور الحياتية. فما كان جسدي فهو يخضع لميل الحاجة والغريزة، كونها ضرورية لغرض الاستمرار والتكوين، وما كان عقلياً وقلبياً، يخضع لميل الرغبة المكتسبة، كون المعرفة أساسا لتلك الرغبة وتوهجها في الفرد نفسه.
وبما أن الثقافة المحلية والبيئة المحيطة بالإنسان أصبحت ذات عوامل تأثير ضعيفة عليه، كون الانترنت وبرامج التواصل الاجتماعي حررت البشرية من البيئة، وحصرتهم في عالمها الافتراضي. تجد ازدياد ميول الإنسان ورغباته.
فالرغبة كما يعبر عنها الفرنسي (لالاند) "ما هي إلا ميل عفوي واعٍ نحو غاية معلومة أو متخيلة "، لذلك فهي فطرية في الإنسان بحسب أفلاطون، ولا يستطيع التخلص منها حتى أنفسهم العلماء والمفكرون والفلاسفة. لذلك أخذت الأنظمة العالمية بالتنمية والدعوة لتحقيقها.
كما جعلت الإنسان يعيش حياة الصراع بين ارادة العقل، ومشاعر القلب، بين ضرورة الحاجة، والرغبة الملحة، ونتيجة لهذا الصراع تنشأ الإرادة، في السعي نحو توفير الحاجات، وتحقيق الرغبات. وتلعب المعرفة في كل ذلك لاعباً أساسياً، في عملية تمكين الإنسان من السيطرة على بناء الوعي اللازم لإدارة حياته وفق منهج عقلي ومنطقي يتسامى فيه نحو هدف تحقيق الاكتمال في جميع نواحي حياته.
فالإنسان شبه الوعاء، إذ اهتمت البشرية بجمالية ذلك الوعاء دون معرفة ملئه، سوف تتسبب في تكوين أفراد مرضى نفسياً، غير قادرين على بناء انفسهم وتلبية حاجات المجتمع السوية.
ومنذ بدء الإنسان بالتفكير أخذ على عاتقه بيان أوجه الصراع النفسي، الذي تحدده الأنظمة والعوامل الخارجة عن إطار ذاته. ومن هذه العوامل العامل الديني، والاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والجمالي. وكل تلك العوامل مجتمعة في إطار، تنبثق من خلالها تكوين هوية الإنسان ورغباته، وهي جزء من رغبات المجتمع والبشرية.
فما يجمع البشرية قديماً كانت الحاجة، وكيفية توفيرها وعلى هذا الأساس نشأت الدول والحضارات إلى جانب الأنهار والمناطق الغنية بالحاجات الغذائية، وما أن تعلم الإنسان الزراعة ونظم شؤونه العملية ومعرفة وتوزيعها بين الأفراد بالتساوي وقيام الدولة لحمايته. انتقل إلى العصر الحديث الذي دشنت حضوره الثورة الصناعية في العلوم، وظهور الابتكارات، والفنون والجمال، حتى أصبح حاجته الماسة إلى تحقيق رغباته التي كانت مكبوتة من قبل الدين والكنيسة، إذ كان اهتمام الكنيسة مقتصراً على تنمية حاجة المشاعر دون معرفة إشباعها، فالثورة التي قلبت موازين العالم الحديث، هي رغبة الإنسان في التقدم وإشباع ذاته، وهذا ما جعل الفيلسوف وعالم النفس النمساوي (فرويد) يفطن لذلك، وسعى لتفسير امراض الإنسان النفسية، فالعالم الداخلي الذي سعى الإنسان إلى ملئه وإشباعه، من خلال التقدم العلمي والمعرفة والابتكارات والثقافة والأدب والجمال تبدو أنها غير كافية. لأنها ولّدت رغبات جديدة يسعى الإنسان إلى الآن لغرض فهمها.
فالإساس الذي يسعى له الإنسان عبر محطات تطوره الفكري هو السعي إلى الاكتمال بين الحاجة والرغبة، فمرة يلتجئ الإنسان إلى الدين، وأخرى للعلم والمعرفة، وجراء ذلك حدث انقسام بين البشرية بين مريدي الحاجة الذين يجدونها من خلال الطقوس والشعائر الدينية، والعادات والتقاليد الاجتماعية، ومريدي الرغبة المتحررين من الحاجة والساعين نحو العلم والمعرفة والابتكار، فالإنسان الديني انسان عاطفي تؤسس ذاته المشاعر، بعكس الإنسان العلمي الذي تؤسس ذاته الرغبة في الوصول إلى الكمال والسعادة والراحة في الارض. فإذا أتبع الإنسان العلم دون التدين كان فارغ المحتوى، والعكس من ذلك إذا اتبع الدين دون العلم يكون مغتربا منفيا، فبناء الإنسان يحتاج الى التوازن في توفير الحاجات وتحقيق الرغبات.
وبعد ما انتهت حضارة الحاجات، أخذ الإنسان يؤسس حضارته في الرغبة، إذ أصبح الإنسان ينظر للجسد ليس بوصفه عادا لكائن حي، بقدر ما هو موضوع جمالي يسعى الآخر إلى تذوقه واشباع رغباته فيه. وهذا ما جعل الفيلسوف الهولندي (سبينوزا) يرى أن المشترك بين الإنسان والحيوان ليس الرغبة، بل الشهوة، وأن الرغبة عند الإنسان في مرتبة أسمى، فهي شهوة مقرونة بالوعي والذات، كما أن الإنسان يبرر ما يرغب فيه ويحسنه تبعا لميوله ورغبته.
لهذا عملت العلوم والتكنولوجيا الحديثة على زيادة وسائل الراحة وسهولة العيش والسعي لتحقيق رغباتنا النفسية والجسدية، وأخذت الحيز الأساسي في الحياة اليومية للإنسان، فأصبحت كل رغباتنا وميولنا حاجات أساسية تسيطر عليها المبادئ الرقمية. فالرغبة المكتسبة التي بثها النظام العالمي حولت الإنسان من الاهتمام بملء الفهم والبطن، إلى تجويع البطن وملء الجسد
بالسيليكون.