هناك من يسْلق الحكّام بلسان حادّ ويطنب في بيان مثالبهم ومساوئهم وما يجترحونه من الظلم ... ولكنه لا يتحدث الاّ حين يكون واثقا أنَّ أحداً مِنَ المستمعين اليه لن ينقل شيئا من حديثه الى أجهزة السلطة القمعيّة...
ويبقى حديثه محبوساً بين الجدران ..!!
وقديما قال الشاعر :
واذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ
طلب الطعنَ وحدهُ والنِزالا
- 2 -
انّ الاحساس بالمظالم وشجبها يكشف عن صحوة ووعيّ ولكنه يكشف ايضاً عن غياب القامة البطولية التي تخوض غمار المواجهة الساخنة للحاكم الظالم لتردعه عن ظلمه ..، وتقدّم الصالح العام على السلامة الشخصية ، وتستعد أنْ تدفع الثمن مهما كان كبيراً ، من أجل الانسانية المعذّبة .
- 3 -
وقد قيّض الله للأمة –عبر توالي الأيام – رجالاً لا يخشون في الله لومة لائم ، خلعوا ثياب الخوف والاحجام ، وتقدّموا فرسانا في ميادين النضال ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسجّل التاريخ مواقفهم وأقوالهم وبَقِيتْ مكانتُهم المتميزة في وجدان الأمة .
- 4 -
انّ الخنوع يغري الطغاة بالاستمرار في سياساتهم الرعناء الظالمة بحق المواطنين، وغياب الحراك المناهض والتزام السكون والصمت ازاء ممارساتهم الغاشمة ، يشجعهم على المضي قُدماً في درب الاعتساف والاذلال وانتهاك الحقوق والحريات .
- 5 -
وقد تحوّلت “ الخلافة “ في العصر الأموي الى مُلكٍ عضوض ، يخوّل (السلطان) أن يفعل ما يشاء حتى اذا أسرف في سفك الدماء ...!!
والتاريخ يقول :
كان عبد الملك بن مروان قبل أنْ يلي الحكم موصوفاً بالاقبال على العبادة والطاعة لله ولا يفارق قراءة القرآن حتى اذا ما آلت اليه السلطة :
ألقى المصحف من يده وقال :
هذا آخر العهد ...
- 6 -
وكان يحلو لمن سلّط الحجّاج على رقاب الناس يسومهم سوء العذاب ، أنْ يُكثر في خطبه من المواعظ ، مع انه كان احوج الناس اليها بمعنى انه لم يكن متعظاً بما يقول ..،
وكان يستغل سلطته وهيمنته على البلاد والعباد لتمرير كلامه ، وهو آمن مطمئن من أنَّ احداً لا يقوى على مقاطعته او مجابهته ...
- 7 -
غير انه كان مخطئا في التقدير ، فقد تصدّى له في مكة المكرمة وهو يوّجه خطابه للناس ، مَنْ ردّ عليه خطابه رداً منطقيا بليغاً ، دون انْ يعتريه شيء من الخوف على الاطلاق ...
لقد قام من قال له :
“ مهلاً مهلاً
انكم تأمرون ولا تأتمرون
وتنهون ولا تنتهون
وتعظون ولا تتعظون ،
أفاقتداء بسيرتكم ؟
أو طاعة لأمركم ؟
فانْ قلتم اقتداء بسيرتنا فكيف يُقتدى بسيرة الظالمين ؟
وما الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال الله دولا ،
وجعلوا عباد الله خولا ؟
وانْ قلتم أطيعونا أمرنا ،
واقبلوا نصحنا
فكيف ينصحُ غيرَهُ مَنْ لم ينصح نفسه ؟
أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة؟
وانْ قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها
واقبلوا العظة ممن سمعتموها فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات،
وأعرفُ بوجوه اللغات منكم ،
فتزحزحوا عنها ،
واطلقوا أقفالها ،
وخلوا سبيلها
ينتدب لها الذين شردتموهم في البلاد ونقلتموهم عن مستقرهم الى كلّ واد، فو الله ما قلدناكم أزمة أمورنا وحكمناكم في ابداننا وأموالنا وادياننا لتسيروا فينا بسيرة الجبارين، غير انّا نصبر أنفسنا لاستبقاء المدّة وبلوغ الغاية وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه، وكتاب لابُدَّ ان يتلوه
{ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة الاّ احصاها وسيعلم الذين ظلموا ايّ منقلب ينقلبون }
فقُبِضَ على الرجل
وكان ذلك آخر العهد به ...
أمالي الطوسي ص 106-107
- 8 -
لقد غُيّب الرجل ولكنّ كلماته لم تغب بل بقيتْ محفوظةً يتداولها الناس جيلا بعد جيل ...
انّ التاريخ لا يحترم الخانعين ولكنه يحتفى بالأبطال
- 9 -
لقد أفرز العراق الجديد طبقة من سياسيي الصدفة وقد ركبَ معظمُهم موجة التستر بالدين ليغطيّ على ما انطوى عليه من إفلاس اخلاقي رهيب، أباح له الاستئثار بالمال العام، وتحويله الى رصيد شخصي .
ومع هذا تراه رافعاً عقيرته بوجوه محاربة الفاسدين ومطاردة المختلسين..!!
يريد بهذا أنْ يبرّء نفسه من الفساد وهو من أبرز رجاله ..!!
وخفي عليه أنّ (الواعظ) اذا لم يكن (متعظاً) فلن يصدّقه أحد ...
ولن تمنع تلك الادعاءات البائسة رجالَ الرقابة والنزاهة المخلصين من وضع النقاط على الحروف بشأن أعماله المنكرة ، سواءً كانت إهداراً للمال العام، أو نَهْبَاً واختلاسا ، وتحويل ملفاته الى القضاء .
وهذا ما ينتظره الشعب بفارغ الصبر،
ويريده على نحو الفور .