شظايا (رعد فاضل) أو اللعبُ بجواهِر الأشياء
د. فارس عزيز المدرس
في كتابه (فلسفة البلاغة) يرفضُ ريتشاردز الفصلَ بين اللغةِ والفكر. وفي المُقابل لم يعتدّ بـ لا نهائيةِ الدلالة؛ كما تذهب إلى ذلك التفكيكية وغيرها، بل سلّم بوجودِ ديناميكيّةٍ بين اللغةِ والفكر. فلا لغةَ من دونِ فِكر، ولا فكرَ مِن دون لغة، أيْ لا شعريةَ من دون فكر، مهما كان غرضُها.
بهذا أفتتحُ حديثي عن شعريّة رعد فاضل، ولك أنْ تسميها: سرده، ولك أنْ تعني بها فكرَه؛ لأني سأخلص بهذا كله إلى تماهي الجنسِ الأدبي في موضوعه؛ ليكونَ شعراً؛ ويكون سرداً؛ ويكون فكراً بعْدُ.
تشكّل كتاباتُ رعد فاضل ظاهرةً في النمطِ الحداثي العربي، وهذا النمطُ لا يخصّ الجنسَ الأدبي الذي تظهرُ فيه؛ بل في الطابع اللغوي الذي تستخدمه أولاً؛ وفي النسقِ الفكري الذي تحمِله ثانياً. وفي ما يتعلّقُ بالنمطِ اللغوي؛ أسلّمُ بأنَّ كلمةَ (نمط) لا تعبّرُ بالضرورةِ عن توصيفِ هذه اللغة؛ طالما لم نحدِّدْ طبيعةَ اللغةِ التي يستخدمها؛ لذا أجدُني مُلزماً بالحديثِ عن أمورٍ في صُلبِ الموضوع.
وأهم هذه الأمور قضيةُ اللغةِ التي تنبثقُ مِن كونها تشكيلاً ديناميكياً حسّاساً، ويعود هذا إلى طبيعتِها التكوينيةِ؛ لا سيما في اللغاتِ الأكثر تماسكاً في الاشتقاقات الصرفية والمجازات، ولا سيما (الاستعارة المضاعفة) التي خرجت عن نطاق المدرسيّة القديمة؛ لتشكِّل طريقةً في التفكير؛ تضارعُ التعاطي المنطقي؛ إلا أنها لا تخضع لقوانينه.
وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد نوّه إلى الاستعارة المضاعفة – من دون أنْ يسمِّيها – فقد سعى في ذلك أيضاً ريتشاردز؛ من حيث الخروج بها عن نطاقِها الجمالي إلى توليدِ معانٍ قائمة بذاتها؛ إلا أنهما كلاهما لم يتوصلا إلى قدرتِها على أنْ تكون طريقةً للتفكير؛ لا مجرّد وسيلةٍ للتعبير عنه فحسبُ. ومن هنا أُسلّمُ باحتواء نصوصِ رعد فاضل على الكثير مِن المجازات المضاعفة.
لم أسألْ رعد فاضل عمَّا يعنيه عنوانُه (اللعبُ بجواهر الأشياء)، وهو لم يُفصحْ عنه، ولو أفصح فسيكون قد خرج بكتابته عن نطاق شعرية النص الأدبي؛ إلى التنظير الفلسفي للغة. وأفترض أنّ المَعنيَّ باللعبِ بجواهر الأشياءِ اللعبُ باللغة، أو بالمفاهيم، ثم بالمشاعر، ولعلْمي بطبيعة كتاباته استبعد الافتراض الأخير، ليبقى الافتراضان: (اللعبُ بجوهر اللغة وبجوهر المفاهيم)، ولا أرجّحُ أحدَهما على الآخر؛ لأنَّه يعنيهما كليهما.
اللعبُ بجواهر الأشياء لا شكّ تعبيرٌ مجازي؛ والجواهر هي الأصولُ.. الأصولُ اللغويةُ، أو الفكرية، أو الرؤى والقناعات.. على تنوِّعها. والمعنيُّ بهكذا لعبٍ الانزياحُ عن التفكير التقليدي، وهذا أمرٌ يتعلّقُ بطبيعةِ تصوّره لصيرورةِ الأفكار التي غالباً ما تنزاح عن استقراريتها؛ انزياحَ تأملٍ وتعدّدٍ؛ لا رفضاً للدلالةِ المباشرة؛ بل توسّعاً فيها، لذلك رعد فاضل حداثيّ إلى أبعد تخوم الحداثة الأدبية العربية؛ إلا أنه متشبّثٌ بالإرث اللغوي؛ ومِن خلال عناصرَ حداثيّةٍ خاصة به؛ شأنُه في ذلك شأن أبي تمام؛ أبي الحداثةِ العربية.
أمّا بخصوص كلمة لعِب فلا يعني العبَثَ بالدالّ أو المدلول؛ جرياً على هوَسِ بعض البنيويين؛ بل يعني نفيَ الصرامةِ عن الدلالة، وتحجيمَ منطقيتَها الراكدة. وهذا يُفضي إلى الخروجِ بالتفكير مِن الجمود إلى التلقائيةِ والحدْس؛ جرياً على مقولة رامبو: (العبقرية هي الطفولةُ المستعادةُ قصداً)، أيْ الطفولةُ التي لا تنساق لرتابةِ العالَمِ؛ ولا تخضع لصرامتِه المنطقية؛ التي غالباً ما توقِعنا أسارى المراوغةِ؛ بادعاء مرجعيةَ التفكير المنطقي، أو الاعتقادي، أو أيّ مرجعية أخرى تنتهي بالحقيقة إلى الكذب.
تتشكّلُ كينونةُ اللغةِ بمنحىً تطوريٍّ؛ له علاقةٌ بالنظامِ الساري. وبخلاف البنيويين الجُدد في قضية تحرّر الدالّ عن مدلولِه إلا في نطاق بيئته؛ تظل الدلالةُ لدى رعد فاضل مُتماسكةً؛ بيد أنّها منفتحةٌ، من خلال إباحةِ الحريةَ للقارئ؛ ليؤولَ، ويزيحَ، ويثبّتَ ما شاء مِن المدلولات؛ دون السماحِ للخيال المجنّح أنْ يخون الدلالة ويفسدَ الشعور.
والنقطةُ الأخيرةُ (علاقة اللغةِ بالنظامِ العقلي الساري) هي الأشدُّ خطورةً؛ لأنها تشكّلُ جسرَ العلاقةِ بين المُدركاتِ العقلية، وقدرةِ اللغة على نقل تلك المُدركات. هل قلتُ مُدركاتٍ عقليّة ؟ نعم، لأنني أجد المُدركاتِ - التي تُصنَّفُ جزافاً على أنها غيرُ عقلية كالحدْس والخيالَ - لا تقلُّ أحياناً عن التعقّلِ قدرةً، وهي ليست مجردَ انطباعاتٍ؛ لأنّها مُدركاتٌ عقلية ابتداءً، فما مِن تشبيهٍ ولا وصفٍ ولا مجاز إلا وهو تركيبٌ إدراكي؛ لصورٍ انعقدتْ في الذهن. وعليه فالأخيلةُ والمجازات ابنةُ التصوّر؛ والتصور تعقلٌ؛ على وفقِ رؤيةِ أرسطو؛ المعارضة لرؤية أفلاطون، فكلُّ صورِ التعبير – ما خلا الهذيان – عملٌ عقليٌّ؛ بمَعزل عن فكرةِ التقعيد المنطقيّ. قد يصعُب فهمُ هذه الأطروحةِ من دون تعريفِ النظام العقلي الساري، ولأنَّ تعريفَه مُتسِعٌ؛ فسأعطي وصفاً مكثفا له.
لا يعني النظامُ العقلي الساري اشتغالَ العقلِ بايولوجياً؛ بل الطريقةَ التي اعتاد عليها الناسُ في تحصيل الإدراك؛ فقسمٌ مِن الناس عسيرٌ على مَداركهم أنْ تتشكيلَ إلا عِبر صورٍ حسية، أو بالاستعانة بالتشبيهات. ومنهم مَن يستعينُ بالتحليلِ ليصلَ إلى صوَرٍ ذهنيةٍ تشكَل مدركاتِه. ولكلِّ طريقةٍ تأثيرٌ تختلف عن الأخرى. وشيوع طريقةٍ في مجتمعٍ ما هو الذي يحدّد الطابعَ الذهنيَ له. والنظامُ العقليُّ العربي الساري بات (بالعموم) موزّعاً بين نظامٍ منطقي ذرائعي في الغالب، ونظامٍ رومانسي صوّريِّ التوجّه؛ ينفعِل بالألفاظ وتستغرقه الأخيلة. لكنْ هناك نظامٌ آخر يريد دمجَ مصافي الشعورِ والعاطفة وسحر اللغة بالفكر؛ ليخرج بنصٍ يجمع الشعريةَ والفكر في بناءٍ واحد.
يقول رعد فاضل: ((أنْ أكتبَ يعني أنَّ مُنقِّباً بارعاً ينقِّبُ في قِمةِ رأسي: يشعل قناديلَه، ويفرش بعنايةٍ لوازمَه مِن مكبرات وأزاميلَ، وفُرشٍ ومَلاقط، مطارق صغيرة، وتبغ كثير.
وعلى جري عادتي سأقلّبُ النظر في اللُّقى مَلياً؛ لا لأكتبُها، ولكنْ لأكتبَ ما تخلِّفُ مِن أثرٍ)).
تُرى ما الأثرُ الذي يعنيه؟ ظني أنه ما تتركه اللغةُ الشاعرةُ مِن أثرٍ في فِكر المتلّقي؛ وهي تأتي محمولةً على أجنحةِ المجازات؛ مثقلٌ رحِمُها بأجيج الفكر.
يريد رعد فاضل الدمجَ بين الثقافة والشعر؛ لذلك تأتي لغتُه مشحونةَ الدلالةِ؛ تحمل فكراً مشرّباً بالجمال؛ بوصفه هدفاً من أهداف الفن لا كلُّ أهدافه. ومن هنا ذهب موكارفسكي إلى رفض النظريات المبنية على الفرضية التي تقول: غايةَ الفنِّ هي اللذةُ فحسب. فالعمل الفني قد يلِد لذةً تكتسب موضوعيةً نسبيّة؛ باعتبارها “دلالة إضافية”، لكنْ مِن الخطأ اعتبار اللذةِ وحدها جزءاً لازماً للعمل الفني. واللذةُ ترِدُ في شِعرِ رعد فاضل بصورٍ مختلفةٍ؛ منها: الحبورُ والرومانسية، ومنها الألمُ، ومنها الإدهاشُ الحدْسي، ومنها العناءُ الذهنيُّ في استقصاء تخوم اللغة الشعرية التي بها يكتبُ.
أمّا لماذا هي عناءٌ؛ فلأنَّ فهمَ المجازاتِ المضاعفة يعني التفكيرَ بأدواتٍ جديدةٍ؛ هي غير الأدوات المنطقية للغة؛ وغير الصور الوصفيّة، والأخيلة المجنّحة التي غلبتْ على قسمٍ مِن أدباء الحداثة لدينا؛ فأخيلتُهم تنتهي بمجرّد أنْ ينتهي القارئُ مِن قراءةِ النص. وهذا يترتَّبُ عليه أنّ قارئَ رعد فاضل بصددِ بناءٍ فكري؛ تتشكَّلُ لبناتُه مِن صلصالِ اللغة المستجدة استعارياً، ومن خلال الرموز والحدوس؛ لذلك لا ينتهي الحالُ برعد فاضل إلى أنْ يكون شاعراً فحسبُ؛ بل مفكراً؛ إلا انه نخبويٌّ؛ وهو تراثيٌّ؛ إلا أنه حداثيٌّ مرنٌ. يقول:
“هذه الليلة
شُبُّهَ لي
أني دُعيتُ إلى مقهى هائلةٍ قديمة
بل سحيقةٌ في القدم
يديرُها صُنّاعُ توابيت
ونُدَّلُها ما بين مغسّلين ومكفّنين ودفَّانين.
وصلت الرسالة!”.
من العسير تحديدُ أيّ مقهى يعني، لكنّه بالقطع يعني كلَّ مَحفلٍ؛ وتجمع زاخر بالموتِ وبالعناء، في مجتمع تحفّ به آنذاك ظروفٌ تنحدر به في دواماتٍ سوْدٍ. هكذا هي ليلةُ رعد فاضل؛ شأنُها شأن ليلُ السيّاب؛ في ملحمتِه المومس العمياء. تنثرُ الشظايا في كلّ مكانٍ، وتثور على الأشياء الراكدة في قلب المجتمع.
لكن شظايا رعد مِن نوعٍ آخر … نصوصٌ وأفكارٌ متنوعة؛ شذراتٌ وضرباتٌ؛ تتجاوز حدود الجنس الأدبي ونوعه، وتتفتّقُ عن شعريةٍ جامحة، هي التي تفصّل القولَ في أدبيتها. لذلك لم يعدْ للشكل لديه كبيرُ قيمةٍ؛ إلا بحدود ما يسهِم فيه مِن تأثيرٍ جماليٍّ وممايزة أسلوبية، لا تنفصلُ عن المَحمول الفكري المكثَّف.
يعاني كثيرٌ مِن الأدباء المبدعين مرارةً وألماً، ولا جدوى الكلمة؛ في نطاق التغيير، ويسوّغون هذا – على مرارة - برؤى قسمٍ من المذاهب الأدبية، لكنهم منغمسون في روح الكلمة وجدواها؛ ولن يسعفهم التعلّلُ بالهدف الجمالي. وما مثلُهم في هذا إلا كمثلِ أمٍّ ذهبتْ مُغاضبةً عن ابنها؛ إلا أنَّ فؤادها كَلِفٌ بحبّه. فما أحوجنا إلى أدباء يثْرون المجتمع بوعيٍ عميق وخيال خصب وثقافة متجذرة؛ تترك بصماتها على سلوك الإنسان وشعوره، وبهذا يُسهم الشاعر عمَلياً في صناعة الحياة. وهذا ما جعل رعد فاضل يغادر النسقَ الساري مِن الأغراض الأدبية، ليتخذَ لنفسه طريقاً يميّز إبداعه شكلاً ومضموناً، وتجربتُه بلا شك خطابٌ يحتاج إلى مزيدٍ مِن توسّع ودفع.
أقول هذا لأنّ الأدبَ بات عنصراً معوِّضاً؛ بعد أنْ وهنت عرى الثقافة والفكر؛ وانصرف الناس عنهما أو كادوا؛ لأسبابٍ كثيرة. ولا شك سيكون للروايةِ مثلاً أو للنصِّ الشذري؛ دورٌ تعويضي؛ سواء في نطاقِ الثقافة والفكر؛ أو في مجال الدفْعِ بالشعرية إلى قلب المجتمع. وتجربةُ رعد فاضل ستعاني اغتراباً، بسبب جِدتها، وبسبب ما تقتضيه هي مِن دفعٍ وتطوير، إذْ تحتاج إلى مراجعات تُراعي التداوليةَ وأثرَها الفعال في الانتشار، وستكون مدرسةً في الشعرية الجديدة، لكنّها على موعدٍ مع العناء؛ إلا أنّها بالتالي ستصمد وترتسخ.