د. حسين علي هارف
حين كان (روان أتكينسون) طفلا ومن ثمّ يافعاً كان دائم العُزلة وليس له أصدقاء. كان يهرب حتى من اللقاء مع زملائه والحديث معهم لأنه كان يشعر بالحرج الشديد، فزملاؤه كانوا يتنمرون عليه ويسخرون منه عندما يتحدث وذلك بسبب ما كان يعانيه من عسر الكلام (التلعثم). كان خجولا يميل إلى الوحدة ولم يسمح له ابوه الصارم بمشاهدة التلفزيون إلى أن بلغ إثني عشر عاماً.
كان روان يواجه صعوبة في التحدث بشكل سليم ولم يكن هذا الموضوع هو المادة الوحيدة لتنمر اصدقائه وزملائه، بل إن شكله الغريب كان ايضا محل سخرية وتنمر من قبل زملاء المدرسة الذين كانوا يصفونه بـ (القبيح) ويصفونه بـ (الشبيه بالكائنات الفضائية) وذلك بسبب تقاطيع وملامح وجهه الغريبة وغير المألوفة.
اختار روان العزلة عن محيطه والآخرين حتى بات أقرب إلى أن يكون وحيدا مستوحدا وأن يتخذ من الدراسة ملاذاً وخيارا تعويضيا يجنبه التواصل مع الاخرين والاحتكاك بهم وتحمل سخريتهم المؤلمة.
وما زاد الطين بلّة هو دخول بعض مدرّسيه في لعبة التنمر عليه والسخرية منه، إذ أخبره أحد الاساتذة يوما إنه لا يتوقع منه أن يصبح شيئا ما في يوم ما.
رغم هذه المعاناة المريرة والحالة السيئة التي كان يعيشها، فقد اختار روان التحدي والمواجهة والاحتكام إلى الإرادة القوية في أن يكون شيئاً ما! ليثبت خطأ نبوءة أستاذه وسوء ظن الآخرين به.
فواصل نجاحه الدراسي بتفوق ليلتحق بجامعة أوكسفورد الشهيرة ويكون أحد طلبة كلية الهندسة بالنظر إلى معدل ذكائه الفائق.
وفي اثناء دراسته الجامعية وقع روان في حب فن التمثيل وحلُم بأن يصبح يوما ممثلا مشهورا، فقدم في اختبارات عديدة للتمثيل، ولقد أبدى اتكينسون منذ طفولته انجذابا خاصا إلى شخصية شارلي شابلن اسطورة الكوميديا الصامتة.
بعد تخرجه، رفض روان أن يعمل كمهندس وكرّس كلّ وقته وجهده للدخول إلى عالم المسرح والتمثيل فخاض الكثير من اختبارات التمثيل سعياً لتحقيق حلمه الذي لازمه باستمرار، لكن التلعثم الذي كان يعاني منه كان حائلا دون أن يجد بابًا مفتوحا فضلا عن شكله الغريب البعيد عن شرط الوسامة المطلوب توفره في الممثل.
نصحوه بالتخلي عن حلم التمثيل والعودة إلى عالم الهندسة، لكنه لم يرفع راية الاستسلام ولم يجعل الاحباط يثنيه عن مواصلة الحلم الذي أبى أن يموت في داخله وأمام عينيه، فواصل سعيه لاقتحام عالم التمثيل.. واخيرا تفتقت مخيلة (روان اتكينسون) وعبقريته المقموعة عن ابتكار شخصية (مستر بن) وقد صمّمها لتلائم خصوصية حالته، فجعلها تعتمد اللغة الإشارية والجسدية للتواصل مع الآخرين دون الحاجة إلى الكلام الذي لا يجيده والذي كان دوما وبسببه محط تنمر وسخرية بسبب التلعثم.
ويروي اتكينسون بأنه قد اكتشف هذه الشخصية حين كان يقف أمام المرآة ويقوم بحركات بهلوانية ليتعرف تدريجيا على شخصية فكاهية صامتة تسكنه (مستر بن).
وإلى جانب اللغة الجسدية عوّل روان على غرابة وجهه ليستثمره في إنتاج الأفعال المضحكة من خلال تعابير تثير الضحك عبر العينين والفم والأنف وباقي تفاصيل الوجه الذي كان العنصر الأبرز في هذه الشخصية المبتدعة والتي كانت جواز مرور إلى عالم الشهرة والنجومية التي ابتدأها في مسلسل (مستر بن) عام 1990.
نجح المسلسل على غير المتوقع نجاحا باهرا وساحقا، واستطاع مستر بن وبدون أن ينطق كلمة واحدة في أن يِضحك الملايين من المشاهدين في بلدان العالم، فقد تم عرض هذا المسلسل في أكثر من 200 دولة.
وإلى جانب الدراما التلفزيونية الكوميدية كانت شخصية مستر بن مرتكزا لفيلمين سينمائيين، بل قد تحولت المسلسل الى كارتوني للأطفال.
ذاعت شهرة هذا الممثل بسبب هذه الشخصية التي نبعت من قلب معاناته واحباطاته.
وبات يُعد احد عظماء التمثيل الكوميدي في انگلترا والعالم وأشهر ممثل في العالم في عقد التسعينيات، إذ بلغت شعبيته مديات واسعة، آنذاك، حتى ذكرت احدى الاحصائيات أن أكثر من 170 مليون مشاهد كان يتابعه من على شاشة التلفزيون.
لقد كتب مستر بن بكفاحه قصة نجاح كبرى وضرب مثالا رائعا في انتصار الإرادة على صعوبات الحياة واحباطاتها.
ورغم هذا المجد الذي حققه هذا الإنسان الفنان إلا انه توقف امام تاريخه يوما ليراجع ما حققه.. ما مضى وما تبقى في مسيرته العظيمة على مستويي الحياة والفن.
فاتّخذ قراره الأول بمغادرة شخصية (مستربن) واعتزالها بعد أكثر من عقدين من الزمن. لقد ترك مستر بن - حسب قوله- لا كرها به، بل لكونها باتت شخصية مرهقة بالنسبة إليه! ذلك أن تعابير الوجه المضحكة بحسب رأيه تحتاج إلى مجهود بات مرهقا، ولقد صرّح اتكينسون حينها قائلا وبسخريته المعهودة (لقد أصبحت كبيرا للغاية على القيام بتلك التصرفات الطفولية) ليردف قائلا - وبجدية هذه المرة - (أريد أن يتذكر الجميع مستر بن بأنه شاب في الثلاثينيات من عمره).
ولكي يثبت (روان اتكينسون) بأنه ليس ممثلا نمطيا فقد انخرط بعد اعتزاله لشخصية مستر بن في أدوار جديدة مختلفة مثل (الجاسوس المضحك جوني انجلس) والمحقق الفرنسي (جول ماجريت) فضلا عن بعض الادوار الكوميدية في مسلسلات من أهمها (رجل ضد نحلة) .
لقد انتصر (روان اتكينسون) الذي يعاني من التلعثم على عيب فيزيولوجي كاد أن يحطمه، وتمكن من تحويل نقطة الضعف إلى عامل قوة ليبني له مجدا ونجاحا أكسبه محبة الملايين له، إضافة إلى 150 مليون دولار هو مبلغ ثروته التي جمعها في مسيرته الفنية.
لقد قدّم لنا مستر بن درساً إنسانيا عِبر مسيرته الفنية و الحياتية لخّصه هو بنفسه في آخر تصريح له بقوله: (لتُصبح ناجحاً أنت لا تحتاج إلى وجه جميل أو جسد رائع، أنت تحتاج فقط إلى الإرادة وإلى عقل ماهر وقدرة على الاداء) .
لقد كانت سيرة هذا الممثل الملتبسة تمثل قصة إرادة.. وقصة نجاح ملهمة.