الحضور التدمري بعد الحرب

منصة 2023/07/31
...

  بيتي فرح


لم تكن سوريا محط اهتمام على الخريطة العالمية لدى شعوب الغرب سابقا، لكن الحرب الكارثية عام 2011، وزلزال السادس من شباط عام 2023 والتجييش الإعلامي الغربي الذي رافقهما، رفع الستار عن تلك البقعة المهملة في العالم، ليصبح هذا البلد المادة الاعلامية الدسمة على مدى سنوات، لكأن النكبات الإنسانية أسرع وسيلة لتقديم الأوطان والتعرف على اسمها.  استحوذت سوريا بشكل عام على اهتمام الغرب، ونال إرثها الحضاري  بشكل خاص اهتماما واستنكارا عالميا بعد محاولات  تدميره، فحظيت مدينة " تدمر" على القسط الأكبر من هذا الاهتمام لهول ما تعرضت له حضارتها التي تجاوز عمرها آلاف السنوات، وبالتالي سرقت هذه المدينة الأضواء في المعرض المتوسطي للسياحة الأثرية في مدينة بايستوم الأثرية في 

إيطاليا.

فالمعرض المعني بالسياحة الخارجية  أمسى  بحق ملتقى الفن وعشاق الحضارة الإنسانية، ودليلا على أهمية التاريخ الحضاري لسيدة الشرق تدمر، التي تعتبر إحدى أقدم المدن التاريخية في العالم، والتي ازدهرت بشكل خاص في عهد الملكة زنوبيا، ونافست الحضارة الرومانية آنذاك، لتفتح أبوابها على  مصراعيها أمام حضارات وإمبراطوريات مختلفة، حضارة تتميز بتعددية ثقافية ذات فلسفة جمالية متميزة، عوامل اجتمعت فجذبت الباحثين ومحبي فن العمارة والإرث الحضاري العالمي إليها، وكم من أعمال سينمائية غربية التمويل والإخراج والتمثيل. 

عرضت المراحل التاريخية  للمدينة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وأظهرت صورة السيدة، التي هزت عرش روما بأبهى صورة وأصبحت الملكة زنوبيا ومملكتها رمزا لسحر الشرق وقوته .

من هنا  جاءت أهمية المعرض الذي يشارك فيه أكثر من 25 دولة منذ عام 2015 حتى اليوم، وهو الوحيد في العالم المتخصص بالسياحة الأثرية حيث تميز بالتفرد والشمولية، لاحتوائه على معرض ومحاضرات وورشات عمل في آن واحد، فسلط الضوء على مدينة تدمر المتربعة على قائمة أسماء ممالك الشرق الغنية  بالأوابد التاريخية، بتعيين جناح  دائم وخاص بالمدينة السورية القديمة، يقام سنوياً ليقدم على أوسع نطاق حضارة الشرق، التي أغنت البشرية بثقافات متعددة، والاهتمام بهذا الإرث الذي أغنى العالم سابقا ومازال يحتفظ  بهندسته رغم مرور آلاف السنين. 

قدّم الجناح عدة محاضرات تناولت  تاريخ المدينة والسياحة الأثرية فيها, والإشارة إلى تواجدها في ملتقى قوافل تجارة طريق الحرير الدولي، التي ربطت كبرى الممرات التجارية البرية والبحرية والنهرية الممتدة من "الصين" الى "روما"، كما أظهر المعرض حقيقة ما جرى للمدينة، بدءاً من دخول المجموعات الإرهابية إليها وتدمير وسرقة الكثير من آثارها وعرضها على شاشات عرض كبيرة، أوضحت معالم المدينة الأثرية  قبل وبعد تدميرها على يد المجموعات الإرهابية، التي هدمت الكثير من الأعمدة، وخربت واجهة المسرح الأثري وبعض المعابد وشوهت معالم التماثيل الأثرية. 

كما حاولت  تخريب المتحف الذي يحتوى على نفائس المملكة القديمة . 

إلا أن تراجع عدد السياح في سوريا بسبب الحرب، التي دخلها سابقا ملايين السياح من شتى البلدان العربية والأجنبية. وكانت السياحة موردا مهما آزر خزينة الدولة في تلك الفترة. ألزم الخبراء العالميين على دراسة وضع المدينة، وكيفية إعادة  ترميمها مع الدلالة إلى العادات والتقاليد والإرث الحضاري المادي واللامادي والسياحي والعلمي والاجتماعي فيها، ويعد هذا أكبر مثالا للدعم السنوي الداع إلى معالجة ما تأثر بفعل الإرهاب, ومتابعة الدعم ومناقشة كيفية إعادة إنعاش المدينة لاستعادة ألقها السياحي.

تدمر التي استقبلت أهم فناني العالم العربي على مسرحها التاريخي في مهرجانات سنوية، استضافت فيه كبار الفنانين العرب والفرق الغربية، فكانت سفيرة  للمحبة والسلام، قد تحول مسرحها العريق إلى مسرح مهجور ومهدم، وكما يدافع الإنسان عن أخيه 

الإنسان. 

لا بد من الإشارة إلى الشهيد "خالد الأسعد" حارس تدمر الوفي، الذي وثق تاريخ المدينة  في عدة مؤلفات حملت اسمه، ودافع بشراسة عن حجارتها، حيث قام بإخراج أهم القطع والمخطوطات الأثرية  من متحف تدمر وخبأها في مكان آمن، بعيدا عن بطش الإرهابيين، وبالتالي كانت عقوبة وفائه قطع رأسه وتعليقه على أحد عواميد المدينة. ليخلد اسمه اليوم في تدمر العظيمة كخلود 

حضارتها. 

وفي الآونة الأخيرة هناك مساعٍ جدية لمعالجة جميع   أنواع الأزمات السياحية الطبيعية منها والمُفتعلة بغض النظر عن أسبابها, وتعتبر الأزمات السياحية القائمة نتاج أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية أدت إلى خلق أزمة سياحية، فالظروف الصعبة التي تمر بها سوريا تعتبر سببا مهما في تراجع عدد السياح، إلا أنها مؤخراً بدأت باستعادة عافيتها من خلال توافد المجموعات السياحية إليها ولو بأعداد قليلة ما يدل على بداية التعافي.

 وكأي بلد ما زالت تداعيات الحرب تسري في شريان مجتمعه المتعب، الذي أدى إلى تفشي الأمراض الأخلاقية، التي يجب استئصالها في ما يخص آثار الوطن وحضارته المهربة والمنهوبة. ومن المهام مقاضاة مهربي الآثار بأشد العقوبات ومراقبة الحدود. ومحاولة استعادة ما سرق، فالجرائم المفتعلة بحق حضارة الأوطان هي جريمة انسانية بحق. 

واليوم بتنا شعوبا تطمئن عند استذكار تاريخها الذي يبدو أوضح من مستقبلها الضبابي.