جدلية المادة والوعي

منصة 2023/08/02
...

  سناء باهي

من المعارك القديمة بقدم التاريخ صراع المثالية والمادية، ومن الصعوبة حسمه، ومحل نزاع الطرفين من له أولوية التأثير في الوجود، فالمثالي يزعم  أن العالم الخارجي أو الواقع انعكاس للوعي لا وجود له استقلالا عن العقل، والمادي يزعم أن المادة هي التي تشكل طبيعة الوعي وتجعله تابعا للواقع وليس العكس،

وهذا الجدل يتغير في التاريخ تبعا لتغير نمط التفكير الإنساني، فما يسمى الآن بصراع الدين والعلم هو نفسه ما كان يُعبر عنه في التاريخ بالصراع المثالية والمادية. 

فان كانت المثالية تؤمن أن الإنسان لا يولد صفحة بيضاء، إنما يولد مزودا بمعارفه  القبلية تجعله يعيش في الحياة وفق مبادئ أولية ترسم له خريطة الأخلاق والإيمان بالمطلق، فالمادية ترى الإنسان يولد صفحة بيضاء وهو نفسه من يرسم مصيره بنفسه تبعا لكونه إنسانا حرا من غير تدخل خارجي يرسم له ما عليه أن يؤمن به أو يكفر به.. بل هو في ذلك خاضع لقانون الحس، له كامل الحرية  مع احترام قوانين العقل التي تضمن له الاستمرار في الوجود، وكل ما له تعلق بالدين أو الأخلاق فهي حاجة ضرورية إنسانية لكن بشرط أن يكون دينا طبيعيا يتجدد وفق قوانين المادة التي لا تقبل الاستقرار.

ويمكن المصالحة بين المادة والوعي أو المثالية متى قبلت المثالية أن تتنازل عن حقها في الوصاية على العقول، وتتنازل عن احتكار الحقيقية، وتخضع لتاريخ الانسان وتؤمن بالنسبية حينئذ جاز للمثالية أن تدخل التاريخ للمشاركة لا الحسم المترفع عن فلسفة النقد! .

وليس اللوم وحده للفكر المثالي، بل حتى المادي يلحقه اللوم، لأن كل فكر لا ينفك عن مقدسات وفلسفة الخلاص، فليست الأديان نفسها من تعد الانسان بالخلاص ولغة النجاة، بل حتى المذاهب المادية تعد العقول بالخلاص لكن في سياق له خصوصية مادية، فالقاسم المشترك حاضر، وهو احتكاك الحقيقة بين المطلق والنسبية.

ومشكلة بعض المذاهب المادية أن منها من يقصي العقل من ورشة إنتاج المعرفة، ومنها من تقصي كذلك لغة الروح والطقوس، وهذا غلو إلى حد الإجحاف !.

فالإنسان له حق التدين وتقديس الموروث، وعزل الإنسان عن تراثه ليست لغة العقلاء، لكن المحك هو ادعاء الحقيقة، واحتكاك السلطة هنا يجوز المادة أن تضايق الدين والوعي المثالي.

فالمادية ليس لها مشكل مع الدين الذي يساير تاريخه لكن مشكل المادية هو ذلك الفهم الديني له يعلن الترفع عن النقد، ويأبى الخضوع لحركة التاريخ، فالمادية لا تؤمن بثابت يتحكم في متغير، فما دامت حركة الوجود في حركة فلا وجود للغة الثبات والاستقرار، ومن يقول بخلاف ذلك فليفارق عالم الحس هروبا إلى المثالية الطوباوية.

ومن ثم فستبقى المعركة  قوية وحاضرة في كل عصر، حتى يتفق الطرفان على قاسم مشترك في الفهم الانسان، ويرفع شعار الهجرة الانسانية وتنتشر فلسفة التعايش المشترك.


كاتبة من المغرب