السوق العراقية واستيراد السلع الرديئة

ريبورتاج 2023/08/10
...

  احمد بشي

أغرقت السوق العراقية مؤخراً بالعديد من البضائع الأجنبية غير الخاضعة لمعايير الجودة، ما أدى إلى إصابة المنتج الوطني بحالة من الكساد والتردي، ففي منطقة جميلة أحد المراكز التجارية الكبيرة لمحافظة بغداد يقف المواطن غيث عباس حائراً بعد نزاع بسيط حصل بينه وبين صاحب محل تجاري اشترى منه مجموعة من المعلبات الغذائية ذات السعر المناسب، وعند رجوعه إلى البيت وجدها تالفة وغير صالحة للطهي.

أراد عباس استبدالها إلا أن التاجر قال له: "إن المواد المعلبة لا تسترجع ولا تستبدل لأنها معرضة للتلف بفعل الخزن وتأخر وصولها إلينا، وهذا الأمر حصل لكثيرين في بغداد، خاصة بعدما فتحت أبواب الاستيراد بشكل واسع وتوقفت الرقابة عنها، وأوضح عباس أن "قسماً من التجار يحتكرون السلع لغرض رفع سعرها ولكن يصطدمون بمحدودية دخل الفرد، وقلة الطلب، ما يجعل البضاعة "اكسباير" ويفضل المنتج المحلي على المستورد بسبب سعره المقبول وجودته المرغوبة وثقته به.


ثقافة شرائية

وحسب قول تاجر الأجهزة الكهربائية حسين عصام، فإن "الأجهزة التي نستوردها من منشأ صيني تكون أما مكتوب عليها صنع في P.R.C (جمهورية الصين الشعبية)، فهي غالباً تكون سلعاً رسمية متأتية من دولة الإمارات العربية المتحدة (دبي)، أما إذا لا توجد العلامة فهي ذات كفاءة متدنية"، ويؤكد عصام "تضررنا كثيراً بسبب ارتفاع سعر الدولار بحيث أنه أثر على تصريف المنتجات وعزوف الجمهور عن اقتنائها، وكثيراً ما تصلنا منتجات مستوردة منتهية الصلاحية نتيجة الضعف والتدقيق الحكومي، وإن الزبون العراقي لا يمتلك ثقافة شرائية، أما الإنتاج المحلي فقد اتسم بالركود وحل محله نشاط القطاع الخاص في الاستيراد".


إحصائيات

المتحدث الرسمي باسم هيئة المنافذ الحدودية علاء الدين القيسي، بين في حديثه لـ (الصباح)، أن حصيلة المخالفات التي تضبط في منافذنا الحدودية تدرج ضمن جدول شهري وبالتعاون مع الدوائر العاملة معنا، ففي شهر (حزيران) بلغت (453) مخالفة واندرجت تحت عناوين متعددة، إذ بلغت مجمل الدعاوى الجمركية المحالة من قبل هيئة المنافذ إلى القضاء (276) دعوى والمتضمنة (تغيير وصف البضاعة، تهريب عجلات، تزوير، فرق رسم، معاملات غير مكتملة الاجراءات القانونية)، وشكلت المخالفات المكتشفة من قبل مقر الهيئة (66) مخالفة بإلإضافة إلى العديد من النشاطات المشتركة مع الدوائر في المنافذ الحدودية حيث بلغ عددها (58) وهي (إتلاف مواد، إعادة إصدار بضائع) كما تم إلقاء القبض على (21) متهماً من المطلوبين للقضاء و(10) من المبعدين، إذ تم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وإحالتها إلى الجهات القضائية وفقاً لمحاضر ضبط أصولية.

مؤكداً، أن "منافذنا الحدودية الرسمية في العراق 23 منفذاً ثابتاً وعبرها تدخل البضائع، إذ تعمل ملاكاتنا على مدار 24 ساعة وبكل شفافية وموضوعية وفقاً للتوجيهات القانونية لفحص جميع السلع الداخلة للعراق ومن ضمن سياقات التفتيش يتم فتح (جورة) داخل كل شاحنة لغرض مطابقة البضاعة مع فاتورة الحساب وشهادة المنشأ بعد التأكد من نوع المادة الموجودة في شهادة المنفيست، والذي يحتوي على تفاصيل البضاعة، كونه يشكل العصب الرئيس الذي يُعتمَد عليه ليتم تطبيقها في منافذنا"، موضحاً "عند ورود بضاعة مستوردة فإنها تخضع إلى الفحص المختبري، وإن جهاز التقييس والسيطرة النوعية يعطي رأيه في السلعة ونحن بدورنا نتأكد من نوعيتها ونعيد أي شحنة إلى الدولة المصدرة في حال كانت مخالفة للشروط القانونية وفشلت في الفحص المختبري وممكن ادخالها للبلاد إذا كانت سليمة وفقاً للمعايير".

على صعيد متصل أشار القيسي إلى أن هناك منافذ أخرى تابعة للإقليم وغير معترف بها من قبل الحكومة المركزية من خلال هذه المعابر تمر بضائع منتهية الصلاحية ومخالفة لضوابط الاستيراد.


فوضى تجاريَّة

بينما أكد الخبير الاقتصادي نبيل جبار التميمي في حديثه لـ (الصباح)، أن العراق بابه مفتوح لجميع البضائع وأغلبها لا تخضع إلى سيطرة نوعية حقيقية أو معايير المتانة، وأن قسماً منها يتم تمريره من تحت الطاولة دون حساب كدخول البضائع المحظورة المحدودة الاستخدام كالمواد الكيميائية، ولعب الأطفال الخطرة، والأدوية، والمنتجات الزراعية المستوردة، ولغرض حماية الإنتاج المحلي كما في حديد التسليح فإن الدولة ترفع ضريبة الجمرك عليه لحماية المعامل المحلية وقسم منها يدخل للبلد دون المرور بالجمارك لوجود استثناءات ممنوحة من أعلى سلطات البلد تشمل المستثمرين، والتجار، والمنظمات (NGO) ذات النفع العام.

موضحاً أن "التاجر والمستهلك يبحثان عن رغبة مشتركة لاقتناء الأشياء الرخيصة ويفضلانها على الغالية ما أدى إلى (فوضى تجارية)، فالتاجر المحتكر يستورد مواد مثل ماطورات الماء، فيفرض أسعاراً معينة ويستورد بضائع ذات نوعية منخفضة الجودة فيضطر المستهلك لشرائها، لأنه لا يوجد بديل غير هذا التاجر، ما يدل على ضعف كفاءة التجارة، وقد أسهم المستهلك في الوضع السائد بسبب محدودية دخله ولا يمكنه شراء السلع الجيدة، لأن أسعارها باهظة وتتعلق بمدى الارتباط بين المستهلك والتاجر وكفاءة التجارة والنقل". 

مشيراً إلى أن "الاعتماد المصرفي هو أضيق الطرق لغسيل الأموال من ناحية أخرى فإن تهريب الأموال هو الأقل في هذا الجانب، وباب غسيل الأموال هو باب مفتوح ولا يمكن معالجته بالأمور المصرفية، ولكن يتم بمراقبة الأموال المتداولة ومتابعة الأرباح الناجمة عنها، وهل هي أرباح حقيقية أم أرباح مبالغ فيها، فإذا كانت خيالية فيشير إلى خلل في التجارة ويجب معرفته الأمر الذي يتطلب تكوين قاعدة بيانات كبيرة وشاملة ومن الصعب جداً اليوم توفيرها في العراق". 

مبيناً أن "استيراد البضائع الرديئة جداً هو خسارة ونقود تحرق بلا جدوى، وفتح الاعتماد لغرض الاستيراد يجب أن يكون من شركات عالمية لديها شهادة (ISO) بحيث أن بضاعتها تكون متطابقة مع المواصفات الدولية، وإن كانت منخفضة السعر لأن الحدود الدنيا للمواصفات تكون مقبولة لدى المستهلك كونه يقتني بضائع جيدة يمكنها أن تدوم لفترة معينة".


للقانون دور

أكد الخبير القانوني مناف الخيكاني في حديثه لـ (الصباح)، أن جرائم التهريب تعتبر من أخطر الجرائم التي تلحق الضرر بالاقتصاد الوطني، ونجد المشرع العراقي كان حاسماً باعتبار التهريب جريمة جنائية في قانون الجمارك النافذ والذي يقضي بتطبيق أحكام القانون (141، 142، 143) من قانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969 المعدل، إذ اشترط وبنص صريح أن يتوفر القصد الجرمي لترتيب المسؤولية الجنائية عن جرائم التهريب الجمركي، وإن الفقرة 2 من المادة 194 نصت على الحكم بضعف العقوبات عندما يكون المسؤولون عن التهريب من ذوي السوابق، وإن المشرع العراقي في قانون الجمارك يلقي بالمسؤولية على الفاعلين والشركاء بالتكافل والتضامن من دون اعتبار لدرجة مساهمة كل منهم في الجريمة.

وأشار الخيكاني إلى أن "المواد المخالفة قانونياً والداخلة للبلد تندرج ضمن المادتين 190، 191 وحسب ما يتناسب بالضرر، وأن دخول هذه المواد هو نتيجة الضعف والإهمال الحكومي ما أحدث إرباكاً في النشاط الاقتصادي، والمستهلك يدفع الثمن واللوم يقع على عاتق أجهزة التقييس والسيطرة النوعية والجمارك فهي تكتفي بحجز البضاعة أو الغرامة، ومن الأجدر إحالة المخالف إلى الجهات القضائية لاتخاذ الاجراءات اللازمة بحقه".


تعزيز الإجراءات

المهندس وسام سعيد عاصي، المدير العام لدائرة السيطرة النوعية في الجهاز المركزي بين في حديثه، أن "الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية يعمل بموجب قانون رقم (54) لسنة 1979 ويعتبر من الأجهزة العريقة في المنطقة وأحد تشكيلات وزارة التخطيط، ويهدف الجهاز لحماية المستهلكين والمنتجين والبيئة، ويسهم في النهوض بالاقتصاد الوطني وحماية الثروة القومية، إضافة إلى أهميته في العلاقات الاقتصادية الدولية والتبادل التجاري نظراً لطبيعة عمله الرقابي والحيادي".

مؤكداً أن "المنتجات المحلية والمستوردة تخضع للرقابة بالتعاون مع الجهات الاستهلاكية تحقيقاً لأهدافه الستراتيجية المتمثلة برفع مستوى حماية المستهلك من خلال ضمان مطابقة المنتجات الخاضعة للرقابة وتوفر السلامة فيها، ومنع تداول المنتجات غير المطابقة للمواصفات المعتمدة، وضمان فعالية وكفاءة إجراءات الرقابة على الأسواق لحماية كل من المُصنّع والتاجر والمستهلك وتعزيز الثقة بالأسواق المحلية".

وأردف عاصي أن "الشروط التي يجب أن تتوفر في البضائع المستوردة هي أن تكون جميعها مطابقة للمواصفات القياسية العراقية وبالاستعانة بالمنظمة الدولية للتقييس (ISO)، إضافة إلى التعاقدات من قبل الجهاز المركزي للتقييس مع شركات عالمية تعمل في مجال التفتيش للبضائع لتنفيذ برنامج التدقيق قبل توريد السلع إلى العراق في بلد المنشأ".

وفي هذا الصدد أوضح عاصي أنه "في حال ضبط البضائع المستوردة غير المطابقة للمواصفات المعتمدة في المنافذ الحدودية فإن الهيئة العامة للجمارك هي المسؤولة عن اتخاذ الاجراء المناسب بشأنها، أما إذا تم ضبط البضائع المخالفة في الأسواق المحلية فيتم إعلام الجهات المختصة (الأمن الوطني، الرقابة الصحية) لاتخاذ الإجراءات.


خطورة المستورد

مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، بيّن في حديثه لـ (الصباح) أن "خسائر بلادنا السنوية تقدر بنحو لا يقل عن 15% من الناتج المحلي الإجمالي بسبب الاستيرادات الرديئة سواء من منتجات نهائية أو مدخلات والتي تشكل عبئاً على الميزان التجاري للعراق والناتج المحلي الإجمالي والناجمة عن ضياع كلفة الفرصة بسبب استبدال سلع واطئة الجودة بعالية الجودة من مناشئ عالمية معتمدة، وتخضع للسيطرة النوعية ومقاييس الجودة العالية".

مشيراً إلى أن "هناك أثراً سلبياً مزدوجاً يترتب على الاستيرادات التي هي خارج نطاق ضوابط الجودة المعتمدة قياسياً لدى أجهزة التقييس والسيطرة النوعية سواء في بلادنا أو العالم، فالأول يتمثل بالأضرار التي تستهدف المستهلك المستخدم للبضاعة الرديئة وأخطرها هو ما يتعلق بصحة الإنسان وفوات المنفعة من بضاعة لا توفر المردود الاقتصادي المطلوب، والثاني، هو الهدر الاقتصادي بتسديد أثمان على سلع واطئة الجودة لا تتناسب والنفع الاقتصادي الضعيف منها، لا سيما السلع المعمرة ولكنها سريعة العطب كذلك ولوازم الإنتاج ومدخلاته الرديئة في العملية الإنتاجية التي لا توفر أي قيمة مضافة سواء في تطور الناتج المحلي الإجمالي أو رفاهية الفرد، ويأتي استمرار تدفقها تحت تأثير الإغراق السلعي واغراءات الأسعار المنخفضة، وعليه فإن الاستيرادات الرديئة تعد مصدر استنزاف لثروات البلاد، فضلاً عن هدر رفاهية الاستعمال لسلع لا قيمة أو منفعة كافية منها".