سايكولوجيا المنشآت والمنظمات والمؤسسات

منصة 2023/08/10
...

لفتت انتباه علماء النفس، ظاهرة مؤسساتيَّة أصابت عدداً من العاملين في المؤسسات الصحيَّة والتربويَّة والاجتماعيَّة والعاملين في البنوك، تتحدد بحالة من التعب والإحباط وهبوط الأداء الوظيفي، تبين لهم أنَّها ناجمة عن ضغوط الجهد النفسي في العمل، أو لطريقة معينة في الحياة، أو لعلاقة معينة ولكنها تفشل في إنتاج الغاية المطلوبة، ولأنَّ من يُصاب بها (يحترق من الداخل) فإنَّهم اصطلحوا على تسميتها بـ(الاحتراق النفسي).

ولقد توسعوا في دراستها فوجدوا أنَّ من أسباب الإصابة بـ»الاحتراق النفسي» التركيبة الشخصيَّة للفرد الذي يكون واقعاً تحت تأثير اتجاهات فكريَّة ووظيفيَّة غير واقعيَّة، كأنْ يرسم لمستقبله أهدافاً لا يستطيع تحقيقها على مستوى الواقع فيصاب بخيبة أملٍ وإحباطٍ تؤدي الى احتراقه نفسياً. وكذلك حين يسود بيئة العمل التنافر والبغضاء والحسد، واتباع الإدارة أسلوباً سلطوياً لا يحترم إنسانيَّة

العاملين.

غير أنَّ أهم أسبابه: شعور الموظف بالحيف حين يرى أنَّ ما يتقاضاه لا يساوي ما يبذله من جهدٍ فكري وتعبٍ جسمي، وهذا ما حصل للعراقيين في سنوات الحصار الثلاث عشرة العجاف، فراتب المعلّمة – على سبيل المثال – كان لا يساوي ثمن حذاء لها، أو حين يشعر الفرد الكفوء أنَّه مغيّبٌ أو مهمّش، وأنَّ الأقل منه كفاءة يأمر وينهي ويجلس على كرسيٍ أكبر من حجمه، أو حين يشعر أنَّ الحال قد تردّت وصات على وصف الشاعر: (تمزقت حتى لم أجد فيك مرقعاً) فيكفر بالقيم والوطن.

ولا يحدث الاحتراق النفسي فجأة، بل يمرُّ بمراحل تبدأ من مرحلة الحماس الوظيفي، وفيها يكون الموظف (طبيب، مدرّسة) في قمة نشاطه الإيجابي، مفعماً بالتفاؤل والتوقعات بإنجاز أشياءٍ متميزة في مجال اختصاصه. وغالباً ما يرفض الفشل في عمله ولا يقبل إلا بالإنجاز الكامل، إلا أنَّه بعد سنواتٍ يدخل المرحلة الثانية: الركود، وفيها تنخفضُ الطموحات ويدركُ الموظف (الطبيب النفسي مثلاً) أنَّه محدودٌ بالمتغيرات الموجودة في البيئة الطبيَّة والاجتماعيَّة التي يعيش فيها، وأنَّه لن يستطيع أنْ يغيرَ ما يريد بمحض إرادته وحماسه لفعل ما هو

أفضل.

وأنَّ الأمراض النفسيَّة صارت كالوباء وستبقى موجودة مهما كانت براعته. وإذا لم يكن واقعياً في نظرته المهنيَّة، فإنَّه سوف ينحدرُ الى المرحلة الثالثة: الإحباط، وفيها يكتشف أنَّ نظرياته الورديَّة أصبحت باهتة لا لون لها، وأنَّه محدودٌ في ما يريد أنْ ينجز، ولن يستطيع أنْ يغير، وستظهر عليه أعراضٌ نفسيَّة وبدنيَّة ناجمة عن الشعور بالإنهاك والإرهاق والآلام البدنيَّة، تؤدي به الى المرحلة الرابعة: التبلّد يكون فيها يائساً من التغيير، وتسيطر عليه حالة من عدم المبالاة والسخريَّة والتهكم من كل شخصٍ يفكر تفكيراً إيجابياً بالتغيير أو تحسين الأوضاع بالمؤسسة التي يعمل فيها، وكأنَّ لسان حاله يقول لكل من يفكر بأشياءٍ جديدة للتحديث: لا فائدة من ذلك، لقد حاولنا قبلكم

وفشلنا.

ما نرجوه هنا من العاملين في المؤسسات أنْ يكونوا أقوى من ضغوط العمل، وأنْ يقتدوا بعراقيين تعرضوا في الأربعين سنة الأخيرة لكل أسباب الاحتراق النفسي، ومع ذلك ظلوا متعلقين بالحياة

 وبالوطن.