الجندريَّة.. إشكاليَّة جدليَّة
أ . د. قاسم حسين صالح
توطئة
ما يدهشك، يحيرك يؤلمك أن العراقيين (يتونسون) إذا وجدوا قضية خلافية، فتراهم يخطئون هذا ويصوبون ذاك، ويسخرون من هذا ويشيدون بذاك، آخرها أنهم قولوا (الجندرية) ما لم تقله، وأنهم ساووها بالمثلية، وصارت حديث منصات التواصل الاجتماعي والصحف أيضاً في حال وصفه الدكتورعماد عبد اللطيف سالم بمقالته في المدى (لا أدري من، أو ما هي الجهة، أو الجهات التي تثير هذه الموضوعات في العراق، وتفتحُ بين فئات المجتمع العراقي المختلفة، جبهات حربٍ هي في غنى عنها، وكأنّ هذا المُجتمَع (المنقسم أصلا على نفسه)، لا يملك من أسباب الخلاف والانقسام، ما يفيضُ عن حاجتهِ بكثير)، وكأن الجندر خطر قادم إلى العراق، في حال يبدو فيه أن العراقيين أصيبوا بما أصيب به السياسيون، فكما أن السياسيين صاروا على مدى العشرين سنة الماضية خالقي أزمات، فإن العراقيين صاروا خالقي إشكاليات، لا يرتاح فيها الفريقان ما لم تكن هناك أزمة أو إشكالية!، أوصلت الطبيب النفسي جميل التميمي إلى إن يقول للجميع: (يا إخوان، الأمر ليس بهذا الشكل، الحقيقة الطبية هي أن كل إنسان من منظور جنسي يولد بشكلين)، بينما كتبت لي الدكتورة أحلام شهيد ( أشو حتى الرادود الحسيني صار يحجي بالجندر!).
وذهبت إلى القول بأنها ستؤدي إلى المزيد من الفوضى والاتهامات والتسقيط والتجهيل بدعاوى بعيدة عن الحقيقة ولغة العلم، فإحدى مهام الجندر، بتعبير الكاتب ماجد الغرباوي هي: تأسيس وعي مختلف، يستعيد إنسانية المرأة بعيداً عن الدونية البايولوجية. ولأن الموضوع هو من اختصاص الأطباء النفسيين وعلماء النفس والاجتماع، فإن هذه المقالة تهدف إلى إلقاء الضوء على هذه (الإشكالية) من منظور علمي خالص.
الجندر (Gender) تحديد مفهوم
يعني مصطلح (الجندر) شعور الإنسان بنفسِه كذَكَر أو أنثى، ويشير إلى الخصائص أو الصفات الاجتماعية التي يتصف بها: الرجال، النساء، الأولاد، والبنات، وتشمل التصرفات (السلوك) والأدوار الخاصة بكل من المرأة، الرجل، البنت، الولد، والعلاقات في ما بينهم. ويقصد به النوع الاجتماعي أو الحالة التي يكون فيها الرجل أو المرأة بعلاقتهما المحددة بالأدوار الاجتماعية والثقافية التي يراها المجتمع مناسبة للرجال والنساء. ولأن الجندر مصطلح اجتماعي ثقافي، فإنه يختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر باختلاف التقاليد والثقافات والقيم والأنماط الفكرية التي يحددها المجتمع والخاصة بالجنسين، وعلاقاتها بالدين والعرق والطبقة الاجتماعية.
بتعبير آخر، يعني الجندر (Gender) البعد الاجتماعي الحضاري لمفهومي الرجل والمرأة في المجتمع والخبرة النفسية للفرد من حيث كونه ذكرا أو أنثى، بينما يعني الجنس (Sex) البعد البيولوجي - الطبي للخصائص الجسمية ( شكل الأعضاء الجنسية) التي تميز بين الذكر والأنثى.
بمعنى أن الجندر مصطلح يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الناجمة عن الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكلٍّ منهما الناجمة عن عوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية صَنَعها البشر عبرَ تاريخهم الطويل، يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة. والغالب أن يكون " جندر" الفرد و"جنسه" متشابهين، ويحصل أنَّ بعض الأفراد الذكور بيولوجياً يشعرون نفسياً بالأنوثة ويكرهون أدوارهم الذكورية، وبعض الأناث يشعرن نفسياً بالذكورة ويكرهن أدوارهن الأنثوية. والهُوية الجندرية ليستْ ثابتة بالولادة (بحسب الموسوعة البريطانية)، فهناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصة العضوية، بل تؤثِّر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهُوية الجندرية، وتتغيَّر وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية، كلما نما الطفل.
مؤتمرات الجندر
في العام 1975 انعقد المؤتمر العالمي الأول للمرأة في مكسيكو سيتي تزامناً مع السنة الدولية للمرأة، وأصدر إعلانا دعا فيه إلى المساواة بين الرجل والمرأة، وطالبهن بالمساهمة في التنمية والسلام الدوليين. وفي العام 1980 انعقد في كوبنهاكن المؤتمر الثاني، وناقش الفجوة بين المبادئ والتطبيق وانتقد الجهات الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة بأنها تحمل المبادئ من دون التطبيق، ودعا إلى ممارسة الحقوق التي أُقرها المؤتمر الأول، والتأكيد على المساواة في فرص التعليم والعمل والخدمات الصحية. وفي العام 1985 انعقد المؤتمر الثالث في نايروبي وأكد على مقدار قياس التطور في المساواة بين الرجل والمرأة على الصعيد الدستوري والقضائي، والمشاركة الاجتماعية والسياسية في عملية صنع القرار. وفي 1995عقد المؤتمر الرابع في بكين وكان أهمها، إذ حضره أكثر من 17 ألف مشارك و6 آلاف مندوب حكومي وأكثر من 4 آلاف ممثل عن منظمات المجتمع المدني، وحفل المؤتمر بتظاهرة إعلامية إذ حضره 4 آلاف صحافي وصحافية. ووقعت عليه 189 دولة وافقت على اعتماد مبدأ المساواة بين الجنسين . ودعا المؤتمر إلى توحيد جهود دول العالم نحو تمكين المرأة، والتركيز على مبدأ النوع الاجتماعي لتحقيق كامل حقوقها من خلال تقسيم الحقوق والوظائف بينها وبين الرجل، فدعا المؤتمر إلى إعادة الهيكلة الأساسية للمجتمع ومؤسساته وتقسيم الأدوار والوظائف بين أعضاء المجتمع، استناداً للنوع الاجتماعي، وأقر منح الأفراد الحق في التحكم بشؤونهم الجنسية واتخاذ القرارات بشأنها بما فيها الصحة الجنسية والإنجابية بلا إكراه ولا تمييز ولا عنف. فأصبحت الدول الموقعة على هذا الإعلان ملزمة باحترام الحقوق الإنسانية لجميع النساء وحمايتها والإيفاء بها بغض النظر عما إذا كن مثليات أو ثنائيات أو متحولات إلى الجنس الآخر أو مخنثات أو ميالات إلى الجنس الآخر. وتشمل الحقوق الجنسية للمرأة؛ ( السلامة الجنسية والاستقلال والخصوصية والاختيار)، وهي دعوة للدول إلى توفير خدمات الإجهاض للنساء إلى المدى الكامل الذي تسمح به قوانينها الوطنية.
وقد أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً في آذار من العام 2010 ورد فيه؛ أن منظمة العفو الدولية تدعو جميع الحكومات إلى إعادة التأكيد على التزامها التام باحترام الحقوق الأساسية للمرأة التي عبّر عنها إعلان ومنهاج عمل بكين والوثيقة الختامية لعام 2000 وأعيد التأكيد عليها في الإعلان السياسي لعام 2005، وحثت منظمة العفو الدولية جميع الحكومات وغيرها من الفاعلين المعنيين بحقوق المرأة على تنفيذ القرارات بصورة عاجلة وملحة، وجاء البيان على ذكر التوصيات الثمان المتصلة بحقوق المرأة.
المشكلة في سيمون
في 1949 أصدرت الفرنسية سيمون دي بوفور كتابا بعنوان (الجنس الآخر)، أعلنت فيه أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية أوصلتها إلى أن تعاني من اضطهاد قاس، وأن الأنثى تتحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقًا من
مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور. وترى أن تحرر المرأة رهين بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها الجسدية والنفسية، ومدى تحررها من الموروث الثقافي السلبي. ودعت إلى أن تتحرر المرأة من هوية مستلبة صنعها الرجل، بقدرتها على الخروج
من أصفاد الصورة النمطية التي صنعها
المجتمع.
وبرغم أن (الجندر) كمصطلح ظهر في سبعينيات القرن الماضي إلا أن كثيرين يرون أن سيمون هي التي مهدت للتنظير لمفهوم "الجندر". ويبدو لنا أن أحد الأسباب للموقف السلبي لمفهوم الجندر في الدول الإسلامية، يعود إلى أنه مرتبط أصلا بامرأة فرنسية وجودية متمردة اسمها سيمون، مرتبطة بعلاقة غير شرعية وغير أخلاقية بشخص غير مرّحب به في العالم الإسلامي اسمه سارتر.
اتفاقية سيداو Cedaw
في 18 كانون الأول 1979 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة توقيع 190 دولة بضمنها 20 دولة عربية بينها العراق على اتفاقية حملت عنوان (سيداو) وترجمته: (القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة)، وتضمنت ثلاثين مادة ألزمت الدول الموقعة عليها بتنفيذها بدءا من 1981. وقد تصدرت الاتفاقية حيثيات
بـ( 11 إذ )، بدأتها:
• إذ تلحظ (الدول الموقعة عليها) أن ميثاق الأمم المتحدة يؤكد من جديد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدره، وبتساوي الرجل والمرأة في الحقوق.
وانتهت:
• وإذ تدرك أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل وكذلك في دور المرأة في المجتمع والأسرة.
وختمتها، وعليه:
• فإنَّ الأطراف الموقعة قد عقدت العزم على تنفيذ المبادئ الواردة في إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة، وعلى أن تتخذ، لهذا الغرض، التدابير التي يتطلبها القضاء على هذا التمييز بجميع إشكاله ومظاهره.
وجاء في المادة الأولى منها:
• لأغراض هذه الاتفاقية يعني مصطلح "التمييز ضد المرأة" أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.
وقد امتدح مختصون بالشريعة الإسلامية عدداً من مواد هذه الاتفاقية (بدعوتها للقضاء على التحيزات ومكافحة جميع أشكال
الاتجار بالمرأة،.) ووصفوها بأن الإسلام سبقهم في ذلك وأنه أعطى للمرأة حقوقا كاملة في أربعة مجالات: الإنساني، والاجتماعي،
والاقتصادي والقانوني، والأسري، ويستشهدون بآيات قرآنية وأحاديث نبوية (النساء شقائق الرجال).
وانتقدوا عددا من موادها، بينها المادة الأولى في تفسيرهم لـ(التمييز) بأنه يعبر عن الظلم والإجحاف أكثر مما يعبر عن التفرقة والاختلاف، وأنه ليست كل تفرقة ظلما، بل إن العدل- كل العدل- يكون في التفرقة بين المختلفين، كما أن الظلم- كل الظلم- في المساواة بينهما والتفرقة بين المتماثلين، فالمساواة ليست بعدل إذا قضت بمساواة الناس في الحقوق برغم تفاوت واجباتهم وكفايتهم وأعمالهم، فليس من العدل والإنصاف، أو المصلحة، أن يتساوى الرجال والنساء في جميع الاعتبارات، مع التفاوت في الخصائص التي تناط بها الحقوق والواجبات.
ويرى آخرون أن الاتفاقية، مبدؤها ومنتهاها، ولحمتها وسداها، هو المساواة المطلقة والتماثل التام بين الرجل والمرأة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والقانونية ونحوها، وهذا مبدأ مجانب للصواب، مخالف لظاهر الكتاب، وصريح السنّة وما استحسنته العقول السليمة وقرّرته الفطرة القويمة.
وأنها تتجاهل في مادتها الرابعة الاختلافات الفسيولوجية؛ إذ إنها تحظر وضع معايير خاصة بالمرأة، وتسمح فقط بوضع قوانين مؤقتة خاصة بالمرأة للإسراع بتحقيق المساواة وعندها تصبح ملغاة.
ويرون أنها دعت في مادتها الخامسة إلى القضاء على الأدوار النمطية للمرأة، ولا تعني بها دور الأم المتفرغة لرعاية أطفالها فحسب، بل تعني كذلك أنه يمكن أن تقوم أسرة غير نمطية من أنثيين، كما يمكن أن تقوم من رجلين، وفي هذا إقرار للشذوذ الجنسي، أوصل إلى إشكالية (المثلية الجنسية)، ما إذا كانت جريمة أو فاحشة أو حقا شخصيا، سنتناوله في مقالة مقبلة، بعد أن أوضحنا ما للجندر وما عليه، بهدف إيقاف هذه الضجة الجندريَّة.
*مؤسس ورئيس الجمعيَّة النفسيَّة العراقيَّة