بغداد: نوارة محمد
على عكس الجماليات النفسية والترويحية، التي تمنحها الموسيقى ويبثها الغناء في وجدان الإنسان إلا أن ذلك لا يبدو متوفرا في الغناء والموسيقى العراقية التي تكثر فيها الشجون، ويعتريها الحزن ويغيب عنها الأمل، بل وصل الأمر أننا لا نجد أغنية واحدة تتكلم عن الحب السعيد واللقاءات الجميلة، بل نرى كل الاغنيات تتحدث عن الفراق والغدر والخيانات والمعاتبات واحيانا تسود اللهجة العدائية والدعاء بالشر.
ظاهرة الحزن الغنائي العراقي مفهومة لدى الدارسين ومشخصة حتى عند المتلقي، إلا أن هذا ليس مبررا في الاعتبارات النفسية، فالغناء بحد ذاته تعبير عن الفرح والانفعالات الجميلة، ويبدو أن المشتغلين في المجال الموسيقي والغنائي يراهنون على نزعة الحزن الموجودة في أعماق المجتمع لتحصيل الشهرة، فكلما كانت الأغنية حزينة وباكية كان الاستماع متصاعدا.
يفسر المعنيون بالموسيقى ذلك الحزن الغالب، الذي يفرض نفسه على الغناء العراقي بأنه ينتسب الى المناخ، الذي امتزج بالأحداث والفواجع على مدار عقود، إذ إن الغناء ليس سوى تجسيد للبيئة وأحداثها التي تشدها الأجيال، ودليل ذلك ان الأغنية الريفية الجنوبية لا تشبه أغنيات المدينة وبحسب الناقد الموسيقى سامي نسيم فان الغناء العراقي "يمتاز عن سواه بكثير من الأمور الفنية بطابعها المحلي والفولكلوري ومن ذلك عمق الشجن فيه، وتفسر على أنها مسحة من الحزن، وقد أثر المناخ العراقي الذي فيه الكثير من الأحداث والفواجع على مر التاريخ مما اضاف للأغنية الكثير من الأطوار الحزينة وخاصة في الأغنية الريفية مثل طور الشطراوي والمحمداوي، وعلى العكس من ذلك الأغنية البغدادية التي اتسمت بطابع آخر قريب للفرح من مقامات، وكذلك مقامات حزينة مثل مقام الصبا والمخالف".
البعض من النقاد عدَّ الحزن الغنائي هوية ثقافية قادمة من الشخصية الرافدينية، وهو مرتبط بالديانات القديمة والطقوس التعبدية. الناقد والباحث في الانثروبولوجيا والتراث الشعبي محمد غازي الأخرس قال لـ"الصباح"، "طابع الحزن في الغناء العراقي قادم من بواطن الشخصية الرافدينية القديمة، يوم كان الغناء طقسياً، وأكثر ارتباطا بالدين والمعبد. كان الرافدينيون يجوبون الشوارع والمدن، وهم ينوحون على ديموزي، الذي يغيب ستة أشهر في العالم السفلي. كانت تلك الطقوس تستخدم الأناشيد الباكية والألحان الجنائزية. أظن أنه حين ولد الغناء الدنيوي أخذ هذه البكائية معه، فأصبح لدينا غناء حزين يبدأ بموال وينتهي بـ (بسته)، لو فككنا إيقاعها بما وجدناه يختلف عن إيقاعات اللطميات والمراثي الجماعية. هذا هو رأيي، يتعاضد معه رأي شائع يفيد بأن الكوارث والمآسي التي مرت بالمجتمع العراقي تسببت بتطبعه بطابع الحزن والعدمية، وهذا الرأي عليه الكثير من القرائن، بدءا من الطوفانات الدورية مروراً بالأعاصير والأمراض، وليس انتهاءً بقهر الأنظمة الدكتاتورية واستعباد المستعمرين والحروب. نعم، في العراق، كل الطرق تؤدي إلى الحزن."
لكن الباحث والناقد السينمائي علي حمود الحسن يعزو ذلك الى التداخل التاريخي والبيئي والطقسي الى جانب السياسي والاقتصادي، وهو يرى أن هناك "أسبابا كثيرة وسمت الغناء العراقي عموما والجنوبي خصوصا بالحزن، يتداخل فيها التاريخي والبيئي والطقسي، فضلا عن السياسي والاقتصادي، وهذا ما نتشارك فيه مع شعوب وجماعات لها ذات الخصائص، لكنها في العراق أكثر ترسخا وربما تجددا، فمنذ فجر الحضارات في العراق القديم ثمة إله للموسيقى الحزينة (ويوجد إله للفرح ايضا)، التي هي متنوعة ومتقدمة، بل انها تعتمد على نظريات رياضية معتبرة، ما يجعل تأثيرها عميقا وليس عابرا، وشكل الموت وأسى الفقدان، معينا لا ينضب، بل يتجدد كل عام باستذكار الموت التراجيدي لديموزي بانتقاله من (النور إلى الظلمة)، فكان اللطم والمواكب الحزينة والندب والنواح، ما جعل كل الموروث هذا تتناقله الأجيال، والمفارقة أن بدايات الموالات والاغاني، لا سيما في الجنوب والفرات الاوسط وبشكل أخف في غرب وشمال العراق غالبا ما تبدأ بالآه"، وهي ذات صرخة المرأة السومرية التي تنوح وتندب "مفرعة" وقد "سردت " ثوبها الذي غالبا ما "يخط" وراها، وهي تصرخ هذه الصرخة التي سيتردد صداها "يمه وليدي".. ليس هذا حسب انما كون ارض السواد مترعة بالخيرات وهي غالبا ما تكون جاذبة للطامعين من الجيران في واحدة من أتعس تمظهرات انتقام الجغرافيا، ما تنعكس حروبا واحتلالات وخراب مدن، اسهمت في ترسيخ الحزن في بنية الشخصية العراقية، فعبرت عن ذلك في فنونها، لا سيما الغنائية، فكان "كالا" بقيثارته التي تعزف نواحا في رثاء المدن العظيمة، هو ذاته "الرادود"، أو "القارئ" هذه التركيبة النفسية اضفت على واقعة الطف حزنا وبكاءً، يكاد يكون مازوشيا لا نجده في معظم البلدان الإسلامية، وفي تقديري أن العامل الاكثر فعالية في ترسيخ هذه الظاهرة ما تعرضت له المرأة في المجتمع الذكوري الاقطاعي والعشائري من تهميش وسحق لشخصيتها واستغلالها، ما جعلها تبوح بأحزانها من خلال حضانتها لابنها وهددته قبل نومه بترنيمة "الدل لولول" التي لا تشبها غيرها، والتي تضمنها أحزانها ومخاوفها ايضا، وفي تقديري ستظل هذه الأزمة الحزينة تلقي بظلالها على ثقافتنا عموما، وليس الاغنية حسب، طالما أرض السواد لم تجد بوصلتها بعد".