عبد الغفار العطوي
فرفض العقل الأدائي وقبول العقل التواصلي، هو الذي نظر هابرماس له في إدراكه للقصر النقدي الذي أنتجته النظرية النقدية الغربية التي أرسى لها مع زميله كارل آتو آبل بعض القواعد التداولية النقدية، وكان كتابه الشهير ( نظرية الفعل التواصلي)، وقام بتغيير قواعد النظرية النقدية التي كانت قد اعتمدت العقلانية النقدية انطلاقاً من مدرسة فرانكفورت، وربطه بين المعرفة والأخلاق (الأخلاق التواصلية)، وكان يدعو إلى التحاور مع الآخر في فضاء يتيح المساواة بين الأطراف، لكنه انتقد العقلانية والتنوير لما تسببا به من نتائج باهظة في فكر عالمنا الحديث، وفتح الباب لفكرة التناقضات النظرية بين المعرفة والقيم، التي ورثها العصر الحديث من العصر اليوناني، الصراع بين الإيروس والأخلاق في المعرفة، فلو نظرنا إلى مفهوم الحب والجدال الدائر بينهما، وقيام ظاهرة الحب من كونها نظرية ابتدأت بالعصر الرومانسي في مجال الإيروس وصراعه مع الأخلاق، بأن فضلت إعادة المفهوم الإيروسي كما كان شائعاً عند اليونان، وقامت المثالية الألمانية على يد إيمانويل كانت بإخراج الحب المثالي من مبادئ الأخلاق المجردة، من حيث ظل ذلك الحب يتناول منظومة المقولات الأخلاقية، أي أن الحب مبدأ أخلاقي، لتقف في حقبة ما بعد الحداثة، وما بعد النظرية، في الاتجاهات الجديدة التي أعقبت الحركة المضادة لما بعد الحداثة، وعودة النظرية والمنهج كما عبر عن ذلك تيري إيغلتون، وانتهاء بـ (الجمالية الجديدة ) التي صاغ اسمها جون جوفلين وسيمون ماليساس، وكون ظاهرة الحب نظرية قائمة على الصراع بين الإيروسية والأخلاق، على اعتبار أن الفعل التواصلي هو الذي أوجد الظاهرة الرومانسية، وتجمع التنافس بين الإيروس والأخلاق في الثقافة، فقد استطاع الفيلسوف الألماني المثالي كانت تخليص الحب من قبضة الأخلاق لأنه برأيه يرتبط بالإلزام والإرغام، واعتبره قضية إحساس وإرادة، وهو غير ملزم للإنسان بقوله: يمكنني أن أحب ليس لأنني أريد، وبدرجة أقل ليس لأن واجبي يلزمني أن أحب، لأن كانت رد الأخلاق للواجب، وبما أن الحب ليس واجباً ولا معنى له في نطاق تلك المنظومة، لذا برزت نظرية الحب المثالي بحلتها الرومانسية في القرن الثامن عشر مغيرة من نمط النظرية الجمالية في منظور الحب وفلسفة الحب في الفن الأوربي، لأن أصل الصراع الجمالي بين الإيروسي والأخلاقي ظل يتناوب النظرية الجمالية عبر التاريخ، وكان النصف الأول من القرن التاسع عشر قد احتلته الرومانسية بأكمله من الناحية الفلسفية والجمالية، واتسمت تأثيراته بالفردية ومحاولة تقليد فلسفة اليونان، فالرومانسية كانت قوية لدرجة غيرت من مفهوم الحب حيث اتجه للناحية الإيروسية، بعد أن ساد المفهوم الأخلاقي للحب قبل ذلك القرن بفعل المثالية الفلسفية الألمانية التي فرضت ذلك الفهم للحب. لقد ساهمت بقسط معين في فهم ظاهرة الحب عن إنشاء النموذج المثالي فيه بمزيد من التأطير الأخلاقي، إلا أن في المنحنى الثاني من ذلك القرن، ظهرت تيارات منافسة للنزعة الرومانسية، وقد تمخضت هذه العدائية عن بلورة فلسفة السخرية التي ميزت الفيلسوف الدانماركي سورن كيركجارد في موقفه النقدي من الرومانسية، في ما طرحه في كتابه ( أو - أو) 1843 فقد قام بصورة نقدية بتحديد معالم ما بعد الرومانسية، حيث أعاد بصورة جوهرية تفسير ظاهرة السخرية الرومانسية، ووضع نظرية جديدة في الحب، من خلال ميله للنزعة الإيروسية، لأنه كان يعي أنها النزعة التي تمثل أنسب أشكال الوعي المطابق للنزعة الجمالية التي كانت منتشرة عند اليونان. قال كيركجارد: في الثقافة الإغريقية كان الحب الإيروتي منتشراً في كل مكان، وكان حاضرا باعتباره عنصراً ضرورياً من عناصر النزعة الفردية الحياتية، وأراد الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار اعتبار عودة الرومانسية في حقبة ما بعد الحداثة أمرا طبيعيا تفرضه حالة أو ظرف الحقبة التي شهدت الافتقار للمنهجية والعقلانية، فقد طور ليوتار في أوائل السبعينيات من القرن العشرين فلسفة مستندة إلى نظرية الليبيدو (الشهوة الجنسية) لسيجموند فرويد، فالطاقة الشهوانية لدى ليوتار يمكن أن تستخدم كخيال نظري لوصف التحولات الواقعة في المجتمع، وشكل ليوتار مع فوكو وبوديار حلقة فكرية تؤيد الممارسة الرومانسية على الصعيد التأويلي بعد أن ذوت في عصر الحداثة، وأقروا بأن حقبة النظرية التي انتهت قد دشنت بعدها عناوين جديدة انسجمت مع ذاك الشعور الجامح القائم على نطاق واسع لدى جمهور عريض من منظري ما بعد النظرية، مع مقالات متعددة حررها مارتن ماكويلان التي دفعت نحو تأسيس اتجاهات جديدة في النقد (1999)، مما أدى إلى شيوع مصطلح (ما بعد النظرية) الذي روج له تيري إيغلتون وتوماس دوهراتي في عام 2003، لتبدو فكرة العودة نحو التحليل المطول للنصوص الأدبية هي المحاولة الصائبة في العودة نحو النظرية من جديد، ولو بتشكيل نقدي مغاير، كما في جهد جوناثان كلر في مقال له بعنوان: ما بقي من النظرية 2002 من خلال إعادة قراءة النصوص الأدبية قراءة تحليلية تقليدية، وقد أصبح الاختلاف بين من يؤيد عودة قيام النظرية، ومن ينادي بانتهاء دورها شعوراً يحث الكثير من المنظرين على السعي وراء إيجاد عناوين ثقافية تردم هوة الاختلاف، والجمالية الجديدة يمكن أن تكون أحد الاتجاهات المبتكرة التي تمخضت عن جدال المنظرين، في أن التطورات في النظرية الثقافية قد عملت على سوء فهم للعمل الفني، وأن يفقد مفهوم العمل الفني لدى النقاد احترامه بفقدانه لخصوصيته من كونه قابلاً للتحليل، مع أن أصحاب هذه المدرسة ظلوا يؤكدون على أن الجماليات الجديدة لن تعود إلى نهج الفن للفن، بل هم يمضون في تأكيداتهم على ربط الإحساس الجديد بالشكل الجمالي مع وعي السياق الاجتماعي .