لماذا امتلأت مجتمعاتنا بأنصاف المثقّفين؟
أ.د. سيار الجميل
إن مجرّد سكوت الإنسان المثقف على الخراب وهو يراه أمام عينيه، لا يعد مثقفاً حقيقياً ملتزماً بقضايا كل الناس والمجتمع! إن مجرّد إيمانك بالتمايز بين فئة وأخرى وتفضل هذه عن تلك على أساسٍ ديني أو طائفي أو عرقي أو ثقافي.. فإن هذا يبعدك عن أن تكون مع مجتمعك المتنوع بكل أطيافه! إن مجرّد أن تصمت وتبقى ساكتاً عن الحق في تبيان التصدعات البنيوية والتناقضات الصارخة والاختلافات البيئية والاختلالات التعليمية والمالية والادارية مع الفجائع السياسية في كل مرافق الحياة.. يجعلك بعيداً عن دائرة الالتزام الثقافي والاخلاقي، وتلك لعمري قيمة اخلاقية لمن توفرت لديه. إن المثقف الحقيقي يفتقد خصائصه وأخلاقياته أن تعصب لملة أو تطرف في معتقد أو أيديولوجية، أو قدّم ذاته على الموضوع.
أولا : تساؤلات مشروعة
هذا هوَ السؤال الأهّم عندي، وهو الذي يسبق غيرهُ من الأسئلةِ المهمّة، ويستوجب علينا التفكير في صياغة أجوبة ذكية وموضوعية ومجّردة ومتواصلة غير منقطعة مع اثارة ما هو مسكوت عنه في حياتنا.. وينبغي معرفة معنى "أنصاف المثقفين"، ولماذا يتفاقم حجمهم اليوم؟ إنه "الموضوع"، الأهم الذي يَستوجب معرفته، خصوصاً ونحن نشهَد ما يجري للثقافة العربية في حياتنا خِلال هذا الزمن الصعب. أزعم أنّها مساءلة جميلة تهمّنا جميعاً عندما أقول متسائلاً: هل هناك اليوم مفاهيم واضحة للثقافة والمثقفين في مجتمعاتنا المعاصرة؟ وكيف مرّت الثقافة وأهلها بكلّ بنيوياتهما ابّان القرن العشرين وما حفل به واقعنا المرير من أزمات ومشكلات وحروب قاسية واضطهادات؟ وما نالته الثقافة من تناقضات وخطايا وتشويهات وبطش وتفاهات على مدى نصف قرن مضى؟ فهل نكتفي باعادة تعريف ذلك المفهوم؟ أم نبحث عن مفاهيم جديدة بعد نقد كلّ ما حدث في الذي مضى بكل جرأة وصراحة، لندرك أن القرن 21 أضفى بكلّ مشكلاته المعقّدة وآلياته وتكنولوجياته المستحدثة على الثقافة والمثقفين أعباء جديدة.
ثانيا: معنى المثقف
نعم، المثقّف كلمة عالية المستوى وكبيرة المعاني وسامقة جداً، ولا يمكن أن نطلقها على هذا وذاك ممن لا يمتلكون من بضاعتها شيئاً، ولم يقدّموا أشياء مبدعة متميّزة، ولم يتحركوا في الميدان الّا ويحملون أسلحتهم الفكرية واللغوية والمعرفية وأن يكون المثقف قد تعب على نفسهِ ليعرفه الناس برصيدهِ وكلّ معانيه، التي يحملها ليعرفوه مثقفاً حقيقياً لا موارباً ولا مقنّعاً ولا مصطنعاً ولا مشوّهاً ولا سلطوياً.. المثقف الحقيقي هو الإنسان المتمدّن بتفكيره النسبي لا بجموده المطلق، وهو الملتزم بقضايا المجتمع والانسانية لا التائه أو المنعزل أو المتعصب أو الأناني، وهو المثقف المثقل بالأفكار والمشاركة الهادفة والرؤية البعيدة.. هو من تعب على نفسهِ وصقلَ تفكيرهُ من خلال القراءات والتجارب والمواقف الصعبة، وبالامكان أن يفرز ذلك الدعي أو المهرّج، أو المصفّق للاحداث وللسلطة، سواء كانت سلطة سياسية أم اجتماعية، مع احترامه لكلّ التيارات والاتجاهات من دون التخندق مع نفايات حزب أو ذيول تيّار أو الترويج لأيديولوجية أو أكثر.. وأن يكون محافظاً على ما يعتقد به شخصياً من دون ان يهرّج باسم هذا أو ذاك..
المثقف هو المبحر في البواطن والأعماق ولا يمكنه أن يطفو على السطح، ولا يمكنه أن يعيش طوال حياته فوق القوارب، ويأكل كلّ القشور ويبقى يحرق زمنه مع بقايا التاريخ.. إنه قادر على الاستجابة لكلّ التحديّات التي تصادفه ما دام يعيش حياته عابراً لكلّ البقايا البالية والرواسب التاريخية الرثّة، التي تكتنفها مشكلات الماضويات وأمراضها المزمنة.. وبالوقت نفسه، فالمثقف ينبغي أن يحترم الموروثات الجميلة، ويشعر بقوة ما يمتلكه ازاء الآخرين من الفارغين، وهو يتعايش مع كلّ الثقافات الحية وأشكالها وألوانها ومضامينها إن نجح في أن يقف على أرضية صلبة، هو الذي يصنعها بنفسه دون الاعتماد على الآخرين.
ثالثا: المثقف الحقيقي
المثقف الحقيقي هو المتطلّع نحو الأمام دوماً بصيرته متوقدّة ورؤيته مصوّبة نحو المستقبل دوماً، ولا بدّ أن يكون الماضي عنده جعبة دروس لا أكثر ولا أقل.. مهمّته أن يفرض ابداعاته على الناس ليحترمونها لقوّتها وأهميتها.. عليه أن يكون رزيناً هادئاً لا يبخس بضاعته في سوق هرج ومرج الثقافة المبتذلة، ولا يركض وراء هذا وذاك لتسويق بضائع الاخرين باسمه.. المثقّف الحقيقي يبدو ثقله بما يمتلكه من رصيد معرفي كونه القارئ من الدرجة الاولى، وقد نجح في تخزين معلومات واسعة قد يتفّوق فيها على مختصّين لم يقرؤوا في حياتهم كتاباً واحداً.. صحيح قد نراهم أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات ومدراء عامين وقضاة ومحامين ومدرّسين وتربويين وعسكريين.. وغيرهم، ولكنهم جميعاً من انصاف المثقفين أو من معدومي الثقافة، فواحدهم لم يقرأ كتاباً في حياته، وليست له القدرة على أيّ حوار، أو صوغ جملة مفيدة، وليس باستطاعتهِ أن يستوعب أيّة فكرة أو أيّ رأي.. والأنكى من ذلك انه لم يتعلّم أبداً لا أصول المجالسة، ولا آداب الحوار ولا أدب الحديث، ولا مبادئ الصداقة، ولا يعتز بقيم المجتمع ولا يعرف أيّة دعابة أو ظرافة أو نكتة.. ولا يعرف كيف يتكلّم ولا كيف يتصّرف، ولا كيف يكون لبقاً وجذاّباً، ولا يعرف لا الحجّة ولا توجيه الكلام.. وليس له أيّة ذائقة سمعية أو بصرية.. فكيف سيكون فاعلاً في مجتمع حي؟ بالتأكيد سيزيده نكداً وتفاهة أو كآبة وثقل دم !
رابعاً: أنصاف المثقّفين
إنّ النماذج في اعلاه ربما تصل مستوياتهم الثقافية إلى الصفر، فهو جاهل ومعدم من الثقافة العامة وهي ضرورة للانسان العادي، وقد يدري بنفسه وهو مقتنع بمستواه، فيلوذ بالصمت ليحافظ على كرامتهِ. أمّا الأخطر، فهو الذي لا يدري أنّه كذلك فيحاجج على خطأ، ويقع في مشكلاتٍ اذ لا يعترف بخطئه مثل هذا النوع البشري، ولا يلوذ بالصمت أبداً ويرى نفسه منفوخاً، وهو يحاجج من يخالفه من مستواه.. أمثال هذا وذاك أو هؤلاء واولئك هم امّا من انصاف المثقفين أو من المهرجّين أو المتراجعين أو المقلدّين والكاذبين ومن سرّاق الكلمة ومن المطنبين المسهبين الذين ليس لهم غير الانشائيات ورصف العبارات الجاهزة والكلمات التي يعيدون ويصقلون فيها، وهي جاهزة وهذا ما نشهده يومياً على شاشات التلفزيون أو في محافل واجتماعات وملتقيات ومحاضرات وندوات.. وما أكثرهم اليوم في مجتمعنا الذي تشظت نخبه المثقفة المبدعة منذ خمسين سنة، وتشتتّ المختصون وصمت رجال الكلمة وصناع المواقف والمبدعين الرائعين.. ويذكرني هذا بمشاهد فيلم مرجان احمد مرجان وبطله الفنان عادل امام الذي صنع من نفسه شاعراً تافهاً، أو فناناً مسرحياً فاشلاً، أو نائباً مزوّراً في البرلمان.. الخ وأراد بشتى الطرق الملتوية ان يكون مثقفاً، ولكنه بقي تافهاً.
خامساً : النخب المثقفة
اتفّق مع أفكار ريمون أرون القائلة بأن المثقّف حالة خاصة كونه يمتلك ملكة الثقافة مع مواهب تؤهّله لأن يكون مثقفاً نخبوياً. وعليه فان المجتمعات تزخر بالنخب المثقفة وليس كلّ ابنائها من المثقفين، ذلك ان فئات الناس قد يكتفون بما لديهم من معلومات ولكن شريطة امتلاكهم الوعي بالحياة والأمور ومستلزمات أخرى، ولكن ربّما نجد من بين صفوف الآف العمال أو الفلاحين أو الكسبة والمهنيين أو حتى الطلبة بعض المثقفين الأقوياء. انّ ثمّة مثقفّين عراقيين رائعين، ولكنهم مشتتون في الدواخل العراقية جراء ظروفهم الصعبة أو تجدهم وهم منتشرون في شتات كلّ الافاق.. وهم فرادى أيضاً، إذ أنّ الأعم الأغلب ليسوا بمثقفين حقيقيين وأغلبهم في طريقهم إلى الرحيل. أمّا في الدواخل، فإنّ العراقيين ليسوا بحاجةٍ أن يكونوا جميعاً بمثقفين، فهذا محال، بقدر. إنهم جميعاً بشكل أساسي بحاجة ماسة إلى الوعي، فهم إن امتلكوا الوعي والادراك المتبادل للحياة المعاصرة أولاً واحترموا التمدن والمرأة والانسان والمعاملات الاخلاقية ثانياً، ولم يسرقوا أعمال وكتابات ورسوم غيرهم، ويسوقونها باسمائهم ثالثاً، وهم أن تعبوا على أنفسهم في القراءة والمعرفة العامة ليعرفوا ما يقولون رابعاً. يكفي أن يزخر العراق بنخبٍ مثقفةٍ مبدعةٍ وبفئاتٍ سكانية واعية. إن استمرت الحياة بما يجري من أساليب مضنية، فانها سوف تمضي من سيئ إلى أسوأ، كما ستنعدم كلّ الكائنات المثقفة العراقية الجميلة، وسيزداد الجَهلة وهم أخطر انواع البشر، وستختفي ثقافة العراقيين وابداعات اهله الرائعة.. ولم نعد نسمع بمثل تلك النخب المحترمة على حساب تكاثر انصاف المثقفين الجهلة، وهم من أسوأ ما انتجه العراق في ازمنة الظلام..
سادساً: سيطرة مركزية الدولة على أنفاس الحياة العراقيَّة
قلت في كتابي "انتلجينسيا العراق: النخب المثقفة في القرن العشرين" : "لقد وصلت التجمعات المثقفة والجماعات والهيئات والفرق الفنية، وحتى النقابات إلى أعلى مداها وأغزر عطاءاتها وأخصب أعمالها وأفضل انتخابات اداراتها في كلّ من عقدي الخمسينيات والستينيات.. وبصدور مجموعة قوانين وقرارات وتعليمات منذ سيطرة الدولة عام 1965م من خلال مركزيتها على الحياة العراقية بقراراتها، بدأ الضعف يحيق بالقوى الاهلّية الحية وغدا المجتمع الفاعل تحت هيمنة مركزية الدولة، التي انتقلت من ايدي المدنيين إلى تفاهة العسكريين ومن الوعي الجمعي إلى اللاوعي الاحادي.. ولأول مرّة بحيث لم تعرف الحياة المدينية العراقية على امتداد قرون طويلة الشلل الذي أصاب حيويتها وانشطتها، خصوصاً أن العراق منذ سيرورته التاريخية المعاصرة، وبداية تشكيل كيانه السياسي عام 1921م عرف جملة من التطوّرات في القوى الأهلية الحية التي مثلتها - كما عرفنا - جماعات ونخب مهنية وثقافية عاملة في مختلف المرافق حتى الخدمية منها، كالرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والمساعدات الخيرية والحركة النسوية والتجمعّات الثقافية والنوادي الليلية والنقابات المهنية والأدبية والجماعات الطلابية، والرياضية والكشفية والفنية والشعرية والتشكيلية والموسيقية.. فضلا عن الجمعيات الدينية المتعددة".
سابعاً: الجهلة وأنصاف المثقفين أخطر من الأميين
إنني أشعر بالراحة والبهجة في التعامل مع أناس أميين لا يقرؤون، ولا يكتبون ويكتفون بسجاياهم، وهم أفضل بكثير من التعامل مع أنصاف مثقفين جهلة من حملة شهادات عليا لا يفقهون شيئاً، وليس بالاستطاعة محاورتهم، وتراهم ينفخون أنفسهم اذ لا يعرفون التواضع.. وهم لا يستحون أبداً إن كشفت أخطاؤهم على الملأ.. يكذبون وهم في غيهم يعمهون، اذ انهم قد صدّقوا الكذبة ليجعلوا أنفسهم من المثقفين أو المفكرين، وقد صنعتهم أزمنة التوحّش والبطش والتهريج أساتذة ودكاترة ومثقفين أو وزراء ونواباً أو إعلاميين أو مستشارين والقافلة تمشي في طريق وعر دون معرفة أين سيحط الرحال! إنني أرجح أن تفاقم خطر هؤلاء لم يأت في يوم وليلة، بل نضج منذ زمن طويل افتقدت فيه المعايير في كلّ من الدولة والمجتمع، وضاعت القيم والأخلاقيات، وكثرت التخندّقات والصراعات السياسية، وبطش هذا بذاك وسيطر الرعب على المجتمع زمنا طويلا، بل وانعدمت فرص النقد وتشخيص الاخطاء لعقود طوال من السنين.. فكان إن سيطرت الأحادية الموجهّة على كل المؤسسات التربوية والتعليمية وأجهزة الثقافة والاعلام والصحافة والفنون، فكان أن دجنّت الثقافة واغتصبت اغتصاباً وقبض على الأنفاس وتشتت المثقفون، واشتريت الضمائر أو ناضلوا فأعدم بعضهم وهاجر الاساتذة والشعراء، وقد حلّت الانقسامات بين المثقفين العراقيين حتى في الشتات ناهيكم عن الخوف الذي سيطر على الجميع.
ثامناً: ما العلاج؟ ما السبيل إلى المستقبل؟
ليس من الهيّن أبداً ارجاع الماضي البعيد، ومن المستحيل إرجاع القديم إلى قدمه ذلك أن العراق حظي في القرن العشرين بنخب مثقفة وعلاقات ثقافية وابداعات مثقفين حقيقيين أمسوا اليوم في عداد التاريخ، ولا يمكن أن يحيوا من جديد لتبدّل الأزمنة والعناصر الاجتماعية والطبائع والأخلاقيات، ولكن في الإمكان البدء بإصلاح المؤسسات وتغيير المناهج الدراسية وتأسيس الخطط الجديدة، ومنح الحريات لممارسة النقد وتشخيص الأخطاء، فضلا عن تحديث الاعلاميات.
دعهم يكونوا أمناء على انفسهم، وأن يخرجوا على الناس بأثواب نظيفة وأخلاق عالية وآداب رائعة قبل كل شيء.. عند ذاك نطالبهم بالثقافة.. ومتى توقف هذا المد الطاغي من سطوة الجهلة ورجال التابو الدجالين على حياتنا.. استقرت الأوضاع الاجتماعية، وانتفى تسلطهم على المجتمعات باسم الدين، فهم يتحدثون باسم المقدس أي باسم الرب الاعلى ويستخدمونه وسيلة سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية وكأداة قهر واذلال لكل من ينضوي تحت عباءاتهم، وهؤلاء من الانصاف لا من الحقيقيين..
ان الاعداء الحقيقيين للمثقفين هم رجال التابو الذين يصطف من ورائهم كتل من انصاف المثقفين من المقتنعين بأن هؤلاء هم الأسياد وهم الوسائط بين الأرض والسماء، وهذا كله إن آمن به الانسان فهو ضعيف التفكير ومحدود الرؤية وقاصر العقل.. فكيف يكون مثقفا إن كان منغلقا إلى هذه الدرجة؟.
مؤرخ عراقي