وارد بدر السالم
لا نعتقد بأن هناك أسراراً وخفايا في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي قبل الاستقلال، فالمؤلفات كثيرة والأطاريح الأكاديمية أكثر، وما تم تداوله من عشرينيات القرن الماضي حتى اليوم، بات موضوعاً مُشبعاً بالوثائق والتحليلات السياسية والشهود الأحياء والسرديات التي تناولت مراحل تلك الفترة ومتتالياتها العسكرية والسياسية. وبالتالي نجد أن التاريخ العراقي السياسي قبل الاستقلال مشبعٌ بالتحليلات البحثية والدراسات الكثيرة التي لا غنى لها عند الباحثين والمؤلفين.
• تبدو مقولة «وما خفي كان أعظم» لا تنطبق كلياً على الحياة السياسية العراقية في نشأتها وتكوينها قبل الاستقلال. مثلما لا نعتقد بأن هذا الكتاب جاء بشيء جديد، خارج المؤلفات العربية والإنكليزية المعنية بالموضوعة العراقية، من شأنه أن يضيف للأرشيف السياسي ما هو جدير بالإضافة، بالرغم من أن المؤلف أ.د. صادق عبدالمطلب الموسوي وضع كتابه هذا تحت وصف « تأليف وترجمة» مما يعني أن الترجمة تساند التأليف، وتستشهد بها بما تنقله من آراء وخفايا سياسية غير معروفة للقارئ العربي. وليس العكس، لكن أي قارئ لن يُفاجأ بأية معلومة جديدة مترجمة او حتى مقتبسة، فالمؤلَّف كله عبارة عن «تجميع» ما قيل في السياسة العراقية من مصادر عربية وانكليزية وفرنسية بلغت 64 مصدراً لكتاب حجمه 168 صفحة بحرف كبير وملون، مع الفراغات الكثيرة التي كان عليها. عدا الصور التي أخذت حيزا كبيرا من الحجم بلغت 32 صورة وخريطة ايضاح. بعضها أخذ صفحة كاملة، بينما أخذ بعضها الآخر نصف صفحة وغيرها أقل. لهذا فإن وفرة المصادر المتشابهة تشير إلى مشكلة منهجية في التأليف، ورؤية معتمة للكتابة والتحرير وترتيب الإيقاع في تسلسله الزمني، واجترار المعلومات المعروفة بطريقة تفتقر إلى التحرير المهني، مما جعلها عرضة للأخطاء، وليس أقلها اللغوية والإملائية.
• كثيرة هي الأسباب التي تجعل من هذا الكتاب ضعيف التأليف في معالجة الواقع العراقي قبل الاستقلال، كونه كتابَ اجترارٍ، يختصر الاحداث بطريقة تعليمية ضعيفة، ويتشتت بشكل غير صحيح من دون رؤية واضحة لأحداث كبيرة وقعت في القرن الماضي في بلاد كانت نهباً للاستعمار والاقطاع، واستلاب مواردها الاقتصادية. ويبدو لنا أن المؤلف لم يضع خطة تأليفية لكتابه، بل ترك سرديته تقتطع من التاريخ العراقي ما قبل الاستقلال ما يراه كافياً لإلقاء الضوء على الحالة الاقتصادية والاجتماعية ، بما فيها العشائرية التي اختصر التاريخ الاجتماعي العراقي كله بعشيرة واحدة. وهذا ما يخالف المنطق والواقع العشائري المعروف في الحياة العراقية اجتماعياً ونفسياً. فليس من المعقول أن (يحشر) بلداً بأكمله في عشيرة بدوية واحدة ويقدّمها على غيرها من العشائر العراقية!
• أما اشراك اسم المستشرق الفرنسي جاك بيرك على واجهة الغلاف، فلم نجد له مسوغاً أدبياً واشهارياً ( وإذا بي أجد هذه الدراسة التي كتبتها بالفرنسية خارج بحوث الأستاذية تحت إشراف .. جاك بيرك....الذي اقترح (عليّة - هكذا) كتابة موضوع عن العراق قبل الاستقلال..) وليس هذا إلزاماً على المؤلف أن يضع اسم المستشرق على واجهة الكتاب، لمجرد اقتراح قدمه له ذات يوم، بالكتابة عن موضوع معين. وحتى في تضاعيف الكتاب، لم نجد دوراً للفرنسي بيرك في صياغة الأحداث الماضية، وكلها معروفة، وليس له تعليق على أية فقرة، أو تنويه أو إشارة تاريخية. وبالتالي فأن التعكز على اسم المستشرق، أحد نقاط الضعف الكثيرة التي يمكن أن توآخَذ على الكتاب وصاحبه. وأن التسويق في هذا المجال التاريخي غير ناجح، وليست له أهمية تُذكر في ما طرحه الكتاب، من استعراض بسيط للحالة العراقية قبل الاستقلال.
• بفصوله الثلاثة وفقراته الجانبية التي احتوت على أكثر من 130 فقرة، يمكن إزالة نصفها في أقل تقدير، من دون أن تتأثر فكرة الكتاب (العنوان) بالحذف، حتى لو كان النصف المقترح إزالته يشير إلى الحالة الاجتماعية والسياسية العراقية أثناء الاحتلالين العثماني والانكليزي، كأرضية تسبق الاستقلال، يمكن من خلالها أن نتعرف على الواقع العراقي بشقيه آنفي الذكر. فطبيعة هذا الكتاب غير المنهجية، ومن دون تحرير مهني، جعلت منه كتاباً مدرسياً، أكثر من كونه علمياً، بحثياً، استشرافياً، يحلل الواقع العراقي بطريقة علمية وبحثية، ومصدرية. كان يمكن أن ترفع من شأن الكتاب قليلاً، من دون الاخلال بتسلسله الزمني، لذلك نجد فوضى الفقرات المزدحمة، وقد تداخلت ببضع صفحات عبر مثرية له. فليس من المعقول أن الاحتلال العثماني يُلخّص بخمس صفحات، ومثله أهداف ثورة العشرين بـ 37 كلمة، ولا يمكن بأي حال أن يكون الوضع السياسي العراقي في الاحتلالات كلها عابراً ورقياً، وأن المسميات الحزبية والعشائرية والثورية الوطنية مجرد حضور تاريخي توثيقي علينا أن نعرفه، وبالتالي وقع الكتاب في مأزق اللامنهجية البحثية، في مدرسية صورية غير فاعلة في تقديم الحالة السياسية والاجتماعية والوطنية قبل الاستقلال في العشرينيات.
• هناك الكثير من الفقرات التي اكتظت بها الصفحات، وشكّلت عبئاً إضافياً على المؤلَّف، في إنشائياتها السردية، فعند تقديم الحال الاجتماعي في هذه المنطقة أو تلك، يجري التفصيل غير الفاعل في تشكيل صورة المجتمع العراقي في هذه المنطقة أو تلك، من دون الحاجة اليه، لذلك نرى غلبة الاجتماعي على السياسي في مجمل العرض، وإذا كان المقصد أن نرى الصورة الاجتماعية، وما انبثقت عنها من صورة سياسية لاحقة، فلا نعتقد أن المؤلف نجح في تقديم تلك الصورة، لأنها لم تكن من مهام التأليف، فالحقل الاجتماعي الأنثروبولوجي له ميدانه التفصيلي في الدراسات الاجتماعية. ولو أن ارتباطه وثيق في الميدان السياسي قبل الاستقلال، نظراً لما يقدمه من متون جوهرية في رفد السياسة بالشعارات الوطنية، ويكون للفعل الميداني أثر بلا شك في مسار العمل السياسي، عبر الأحزاب والجمعيات الوطنية، والشخصيات السياسية ذات الحضور الثقافي والعملي في مجالات عملها الاستثنائي.