التمركز حول الغرب

منصة 2023/08/28
...

 كمال انمار 

إن الرؤية الغربية التراكمية حول بناءات الأفضلية الذاتية والمركزية الأوروبية وتهميش الآخر وتشويه هويته الثقافية لا تزال قائمة حتى اليوم، وهذه الرؤية تعتمد في بنيتها على منظور متحيّز يدعي الأوروبي فيه انه الكوني مقابل الآخر الجزئي. ومما أجج حدة هذه التراكمات المتأصلة في الفكر الأوروبي للآخر، الأحداث المتباينة خصوصاً أحداث مثل ما حصل في 11 سبتمبر وما بعدها.
وتلكَ الرؤية حول مركزية العلم والحضارة في الغرب قد ترسّخت لدى بعض المستشرقين والمفكّرين الغربيين. ووصل حد الترسخ إلى القول بأنّ “الأوروبيين هم شعوب الأرض الأكثر تهذبا، الأكثر تمدنا، والأحسن صنعا.”

وقد أكّد الفيلسوف ماكس فيبر على كُل هذا، بل وأعلن عن وجهة نظرٍ فسلفية ذات طابع اجتماعي إن هناك عقلانية خاصة في الحضارة الغربية تميّزها عن غيرها، وتوصّل في دراسة مستفيضة عن الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية إلى أن الرأسمالية “هي من نتاج الروح الديني البروتستانتي بأخلاقه وقِيمه ومعتقداته، وخصوصاً لدى أتباع الكالفينية، إذ أنّ هذه الطائفة البروتستانتية تعمل على تشجيع الادّخار والاستثمار”.

وبيّن عدد آخر من المفكّرين انتمائهم عملياً لهذه المركزية المتحيّزة مثل بيرتراند راسل الذي همّش في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية و كتابه حكمة الغرب أي دور للعرب أو الإسلام فلم يعتبر الحضارة الإسلامية مخزنا للثقافة الهلنستية كما تبنّى ذلك مؤرّخ العلوم بيير دوهيم ولا اعتبرها أصلاً حضارة ترجمة كما فعل الرياضياتي روني تاتون، ولكن همّشها تماماً وبطريقةٍ واضحة تنبأ بوجود خللٍ معرفي أصيل في منظومة الفكر تلك.


ريادة الحضارة العربية 

 ما بيّنه راسل وغيره الكثير يوضح و كأنّه لم يكن هناك أي دور للعرب و لو يسير في تقدم الفكر الأوروبي على عكس المعلومات المتوفرة التي تؤكد الأثر الحتمي للثقافة العربية في أوروبا القروسطية، وذلك الأثر لا يشمل العلوم التجريبية فقط، بل وصل إلى الأدب والموسيقى، وقد قام الدكتور صلاح فضل بنشر كتاب مهم بشأن تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي! ولعمري انّ في هذا مغزى بسيط يؤكد ذلك الأثر الكبير في الفكر الأوروبي بما وصل إليهم من آدابِ واشعار الاندلس بصورة خاصة فأخذوا منها وتأثروا بها.

كما وقد نافحَ عن هذا الأثر بشدة المفكّر المصري رشدي راشد و ترجم ترجمته الشهيرة موسوعة تاريخ العلوم العربية مقدّما بين إيدينا شرحا معاصرا للكثير من المسائل الرياضية و الفلكية و الكيميائية التي عالجها العرب في زمانهم. وهناكَ الكثير من الكتب التي أرّخت و أوضحت ريادة الحضارة العربية، ومنها ما كتبه العقاد في كتابه أثر العرب في الحضارة الأوروبية، وكتاب بحث في تاريخ العلوم عند العرب لمؤلفه يمني طريف الخولي وغيرها الكثير.


أثر الاستشراق واتجاهاته

أمّا فيما يخص أثر الاستشراق فإنّما يبدو جلّيا أنّ الفعل الاستشراقي بذاته في كثيرٍ من الأحيان كانَ خاضعا لتلك المركزية الذاتية لمنظومة الفكر الغربي التي تفتقر لأدنى منطق حي يخوّلها ادعاء تلك المركزية المتخيّلة وريادتها الطهرانية في المجالات التقنية والعلمية والإنسانية دون غيرها. ولقد وجّه العديدُ من المستشرقين علماءً وباحثين ومستكشفين الكثير من التساؤلات حولَ العرب والعربي وشخصيته والحضارة في ظل الإسلام والصحراء. ولعلّ ما قاله إدوارد سعيد يكون مناسبا لمعرفة تلك الرؤية التي تأصّلت شيئاً فشيئا في كتاباتهم و يصف بأن هؤلاء كانوا يرون بأنّ كل ذرة من ذرات الشرق تُفصح عن طابعها الشرقي، وبالتالي أصبح الإنسان الشرقي شرقيّا في المقام الأوّل وإنساناً في المقام

الثاني.

وهذه الرؤية تكشف مسبقاً ذاك التنميط المتعمّد، بل والمتحامل أحياناً على الآخر ككل، 

فما بالنا بعلومه وآدابه وفلسفته. 

ولنا في تلخيص نورمان دانييل مثالاً حول تحيّز الباحثين في الغرب وقال “على الرغم من المحاولات التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرُّر من المواقف التقليدية للكُتَّاب المسيحيين عن الإسلام، فإنهم لم يتمكَّنوا من أنْ يَتَجَرَّدُوا منها تَجَرُّداً تاماً كما 

يتوهَّمون”.

ونفسه دانييل شرح في كتابه الإسلام والغرب تلك النظرة المسيحية للإسلام وللشرق عموما ذاكراً قضايا مهمة حول نبوة محمد وأصول القرآن من وجهة نظر العديد من الكتاب والمفكرين الغربيين الذين كانوا ينظرون نظرة التحامل أحياناً والفضول، إذا قال لورنس في رسالة وجهها إلى أحد معارفه “كان العربي يجتذب خيالي أنها الحضارة العريقة التي اكتسبت الصفاء بالتخلص من الارباب المنزلية”، وأشار إلى أن العربي يخلو من الماديات التي وُصم بها الغرب، وقال إن ذلك مبدأ حسن، ولكن فيها ضرب من الخواء المعنوي أيضا، ولعل هذه الرسالة لا تكشف كثيراً عن توسّع معرفي لفهم الشخصية العربية، خصوصاً وإن الدور الأساسي للورنس لم يكن أكاديمياً كغيره، بل موجّه سياسي من قبل دوائر القرار البريطاني، وقد أوضح في مقدمة كتابه أعمدة الحكمة السبعة، إنه أُنتدب “للعيش مع هؤلاء العرب كغريب عاجز عن مجاراتهم في التفكير والمعتقد مجبراً على تدريبهم وتوجيههم في الاتجاه الذي يتفق مع المصالح البريطانية المتحاربة مع عدوّهم”. وفي هذه العبارة يتكشّف لنا حقيقة وجود هذا الضابط البريطاني في أرض الصحراء ومساعدته لفيصل في دحر القوات 

العثمانية.