دعد ديب
ماذا يبقى من الإنسان عندما تصادر حريته وتمتهن كرامته، ما معنى أن يبقى على قيد الحياة وهو فاقد لكل شيء، ما معنى تورطه في حياة يعجز فيها عن القول والفعل أي فعل!، وأسئلة كثيرة سواها تثيرها رواية عزيز الشعباني “طاعن في السر” الصادرة عن دار فضاءات الفن ببغداد لعام 2022، بصوت ساردها الوحيد نتلقاها عبر هذياناته وهلوساته وحالات الاسترجاع لمواقف وأحداث فظيعة وكارثية التي تتكأ على ذاكرة موجوعة وملتاثة بشروخ لا تندمل كما هو بيَن بمكنونات السارد الموزعة عبر النص يقول باختين “ الفضاء السردي يكتسي من خلال تداخل مكوناته “ ليكون عبء لملمة تفاصيل الحكاية وفهمها وترتيب أحداثها على القارئ الشريك في الهم والوجع الانساني.
وكلما استجمع السارد شتات ذاته لسرد يومياته أمعنت الذكرى في نزيف صديدها وكأنه بجلسة علاج روحية أمام طبيب في مصحة نفسية نجهل رد فعله على اعترافات الشخص المقابل له، لذا يبدو وكأنه يكلم نفسه أو كأنها ترجيعات شخصية لذاكرة تقض كيانه وتؤلم سريرته لنعرف عبر السرد المتشظي المنبث في جنبات الرواية على واقع شريحة من المجتمع العراقي وهم الكرد الفيلية كأقلية مغبونة في تاريخها وحقوقها ووجودها لاحتسابهم من التابعية الايرانية من زمن الديكتاتور وحتى رحيله وبعده، عبر اختزال الواقع في إحدى صوره تاركًا المجال لرمزية الاستعارات في تكثيف مدلولاته بما يقارب أسلوب تيار الوعي في الانفتاح على دواخل النفس وأعماق انكساراتها، والتركيز على البنية النفسية للشخصية عبر خاصية استرجاع نتف الذاكرة المتناثرة ضمن حالة ذهانية تعكس حالة الانهيار والنكوص التي تعانيها وتهتك الذات بين الذاكرة والنسيان، في تلمس الكاتب لمفاعيل الواقع التي عاشته الشخصية الساردة وهول الرعب الذي مرت به ليكون سجين الذاكرة وضحيتها معًا، وذلك لكونه يعاني من عقدة الذنب وتبكيت الضمير والعجز عن الفعل والمواجهة وهو الواقع تحت عبء اضطهاد ثلاثي فرضها واقع انتماءاته الكردية والشيعية والوطنية، فوالده ووالد زوجته أصدقاء جمعهم الهم والانتماء الوطني بالإضافة لموروثهم البيئي الآخر وكلاهما قضى وسط التنكيل به من قبل مجرمي الجهات المهيمنة على البلد، ولكن مشهد الاغتصاب المتكرر لزوجته من قبل جلاوزة السلطة واختباءه تحت السرير مع أطفاله وهو يبصر كل شيء، هي الحادثة الأشد مرارة ورعبا والتي حفرت قساوتها في ذاكرته بما حطم وهمش وجوده اللاحق حيث اختبأ بعدها لمدة ثلاث وعشرين سنة وشب أولاده وهو يراهم يكبرون أمام ناظريه من وراء حجاب، وعندما تغيرت الظروف وسمح له بالخروج إلى الضوء، ظل مكان الاحتجاز في داخله الموبوء بذكرى الكارثة ولم يغادره، ولم تعترف ابنته به وانتحر ابنه الذي تربى بعقلية من دمر أسرته وأصبح واحدًا من قوتها
الضاربة.
إن تجسيد الانتهاك عبر الاغتصاب – القتل – التهجير أو النفي كان إحدى الثيمات الهامة في النص لتوثيق الحكاية عبر الصوت الداخلي للشخصية في سردها المتقطع محمولًا عبر الهذيان؛ الهلوسة؛ المناجاة؛ ليرتد إلى الأمام مرة وإلى الوراء مرات عدة مما وصل به إلى الخسارة الكبرى خسارة كل شيء وبالنهاية خسارة نفسه، وهو حبيس في اللحظة المعلقة بين الموت والحياة، لا هو بحي فيحيا ويمارس الفعل بشكله الطبيعي والحقيقي ولا هو بميت فُينسى وينسى كل شيء، هو خالد في العذاب الأبدي وبعيد عن الموت الذي يعطيه الراحة ولا يصلها، هو عقابه الأبدي في النار الذي يتلظى بها وندمه الذي يحرقه على فعل لم يأت به؛ وعلى كرامة لم يصنها؛ وعن امتهان لم يواجهه كما تقتضي الرجولة.
أزمة السارد هي أزمة القمع والمنع التي تخصه كملمح واقعي معاش وقد انطلق منه ليكثف حالة عامة تضيء على مرحلة ظلية لفترة تاريخية هامة، وقد بقي ردحًا طويلًا من الزمن يجهل مصير زوجته التي كانت له عونًا وسندًا وحضنًا دافئًا والتي انتهكها الجلادون وأخذوها معهم في غيبة لا يعلم مصيرها، لنعلم فيما بعد بأنها نفيت إلى إيران واقترنت بمسؤول ايراني ورجعت بعد السقوط وقد جلبت ابنتها ابنة الاغتصاب لتتبوأ الابنة موقعًا متميزًا بالمشهد الجديد في رمزية للقوى الجديدة التي اعتلت صدارة المشهد السلطوي الجديد ضمن مفارقة الاقدار وعبثيتها.
اختلف النقاد في تجنيس الأعمال القصيرة ذات الصفحات القليلة العدد، فمنهم من يصر على اعتبارها قصة طويلة أو بتعبير آخر ما أطلق عليه اسم “نوفيلا” و بعيدًا عن التسميات فقد تم الاحتفاء بأعمال احتلت صدارة المشهد الأدبي في العالم رغم قصرها ولم تقف عند هذا التأطير لأهمية المضمون وبراعة بناء النص، نذكر منها رواية “التحول” أو ا”لمسخ” ل فرانز كافكا ورواية “فرنكشتاين” لماري شيلي بالغتي الشهرة والتأثير في مجمل الأدب في العالم كله، ورواية “عزيز الشعباني” رغم صفحاتها المئة والست فقد اجتمع لها عبر التكثيف والاختزال ما يضيء على عالم كامل استطاع الكاتب الولوج إلى أعماق شخصيته والخوض في طبقات أسرارها والتي كان لعنونة النص” طاعن في السر” كعتبة نصية أولى دورًا تشويقيًا جاذبًا ومحيرًا كونه يفضي لتأويلات عدة تجمع عدة مفاهيم في كلمة واحدة فكلمة طاعن ملتبسة بين القدم بالعمر الزمني؛ وبين أنه طاعن بالموضوع أي معترض عليه ومشكك به؛ وبين الطاعن المباشر لفعل الطعن أي النفاذ والضرب بمدية أو سيف، ليأتي الاسم المجرور به أي السر ليزيد المتلقي حيرة وإبهامًا في تفسيره للمعنى، ليكون بوابة تأويلات مجتمعة تختزن العمر المديد الذي قضاه يحتفظ بالسر الذي أنهكه وأقض كينونته والمعترض وإن كان في اللاوعي عنده على واقع يفضي إلى سر من هذا النوع، والتأويل الأخير المفترض وهو الرغبة في الاقتصاص عبر الطعن من واقع ينتج سرًا من هذا القبيل، كلها دلالات واسعة يشي بها العنوان المختزن لإشارات تكثيفية لمعاني تفتح أبوابها لعلاقة حوارية غير منتهية وتحتمل بالمقابل لدلالات متعددة تومي إلى النص وتتفاعل معه، بين كتمان السر وافشاءه.
فالسارد وإن كان ضحية فهو مسؤول أيضا لأنه كان جبانًا أسكته الرعب وآثر الصمت والاختباء بوهم النجاة، ولكن بدلًا من ذلك حصد العذاب، فلا نجاة من كابوس مقيم في الوجدان وقد خسر كل شيء، حيث المشهد الأخير صارخ الدلالة، مشهد عالم الدجاج الذي يقاد إلى قنه ليعود زمن القنانة والعبيد وهو يلبس لبوسًا جديدًا وبشكل آخر، فالعبودية هي ما يتبقى لنا في عالم القهر والقمع، والتدجين صورتنا السوداء المقبلة.