جينا سلطان
غالبا ما يقصد العيادات النفسية الأشخاص الأسوياء الذين تعرضوا للتنمر والتعنيف في إحدى مراحل حياتهم، فيما يبقى المختلون أحرارا يطوفون في كل مكان، مجسدين الدور الشرير، فوق رقعة الشطرنج الكونية. ورغم يقين معظمنا بأن الثنائيات المتضادة تحرك صيرورة الحياة وتخرجها وفق النمط الأمثل الذي يخدم سيرورة إنضاج الذكاء الإنساني، إلا أن الكثيرين منا يضبطون أنفسهم وهم يتساءلون خلسة هل يمكن تحويل الشر إلى خير، تحت ظل شرطية قاسية لا ترحم، تضع العقل في موقف العجز أمام سطوة الغضب.
ولأن الشر يثقل كاهل صاحبه، وهو شعور لا يعرفه الطيبون، يرتمي ذوي الذهنية المترنحة تحت وطأة العنف والإقصاء بين أحضان العلاقات الخطرة، التي تعزز شعورهم بالدونية وتنضج الانتقام فوق نار هادئة. وهو ما حصل مع الشابة آلا، المتقدة الذكاء والتي تتمحور حولها رواية «عودي إلى الحياة»، للطبيبة التركية غول سيران أوغلو. إذ ترتمي بين أحضان رجال سيئين يوسعونها ضربا وإهانة، فتصبح أشبه بجثة وحيدة في قبرها، فتُصدم الطبيبة في أول لقاء بينهما بتسلل شعور بالظلمة السحيقة القادمة من مكان عالق بينهما، يهدد بسحبها نحو أعماق مريبة، فتنفر من الفتاة الدميمة ذات الصوت المنفر. وأسوة بأمثالها من المسحوقين تحت وطأة التهميش تستجدي المحبة وتطالب بأن تتم معالجتها وتنشئتها بحب. وبسبب افتقار حياتها من هبة الاستماع إلى الحكايات في الطفولة المطوقة بالعنف والايذاء الشديد، تطالب بحصتها من الحكايات التي تصبح مدخلا لكسر طوق السلطة المطلقة لأمها الراحلة عليها.
من بين رواياتها الثلاثة المترجمة إلى اللغة العربية، تبرز رواية عودي إلى الحياة، التي تحاول فيها أوغلو إبراز أهمية الحكاية في دفع المريض النفسي للتصالح مع ذاته. وتحت مسمى نشر الثقافة النفسية العلمية توظف خبرتها الممتدة إلى ثلاثين عاما لتقود القراء والمرضى إلى حقيقة مفادها أن السعادة قرار قبل كل شيء ومسار علينا أن نختاره بكامل وعينا؛ فالسعادة الحقيقية تكمن داخلنا وليس في العالم الخارجي، فهي الشعور الذي نختبره في أعماق ارواحنا. ولأن غالبية زوار العيادات النفسية يتمتعون بسوية عالية من الذكاء والغنى الروحي والمواهب، تتجاوز السائد في المجتمع، ترفض أوغلو مصطلح العميل، وتفضل تسمية المرضى الأعزاء. أما وضع هؤلاء على درب استعادة الذات المشتتة، بفعل القهر والخيبة والخذلان الأسري والتعرض للعنف والتنمر بكافة أشكاله، فيقتضي المرور عبر تلافيف التجربة الشخصية للمعالج، التي تلعب دور مبدأ الإحداثيات الأساسي عند دراسة أي حركة؛ فكيف لأحد أن يفهم الألم الذي يكابده من احترقت يداه وهو لم يختبر حرارة النيران في حياته؟.
تشكل مقولة توماس هوبز “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، مدخلاً للتطرق إلى طبيعة الإنسان الملتبسة والمراوغة، والتي يواصل النفاق الاجتماعي لجمها حتى تنفجر صمامات الأمان عند الضحية، فيظهر التساؤل اللامجدي: لماذا وقع المحظور؟. ولأن فجور الصديق أشد وطأة من ظلم العدو، والأذى النفسي عادة ما يسببه الآباء والأمهات والأبناء والأخوة والأحباء، تصبح هذه المواضيع الأكثر تداولا بين الطبيبة ومرضاها. ورغم أن الطبيب ليس ملزما بأن يحب كل مريض يدخل عيادته إلا أن علاقة أوغلو بالشابة آلا تمر بعدة مراحل تنعكس عليهما معا في تبادل مثمر لسلسلة الحكايات، فيتسع إدراك الأولى وتستعيد الثانية ثقتها بإنسانيتها المجهضة.
من خلال سرد حكاية الجمال تطل الأم بالغة الجمال، ذات العلاقة المشوشة بالسلطة، التي تجسدها أم زوجها، السلطانة، والقائمة على مزيج من الخوف والافتتان، والتي تفضي إلى وضعية العبدة، الأمر الذي ينعكس على طفلتها آلا في سياق غضب تفريغي مدمر. وتستدعي الحكاية معها ظلال محاكم التفتيش وحرق الساحرات المقترنة بمتلازمة الجوع والحقد.. ثم تأتي حكاية الجنون الجماعي كمؤشر على المأزق الذي يتحول فيه الإيمان الى تهديد أكثر خطورة من الموت، لأن الجميع يتشاركون نفس المصير حتى لو كان الموت جوعاً. وفي هذا النمط لا يوجد إنسان يملك أدنى إمكانية لمساعدة الناس أو توعيتهم، نظراً لإصابة الجميع بلوثة الجنون. على العكس من الجنون الفردي الذي يعد الأصعب على الإطلاق، إذ لا يبقى الشخص وحيداً بل يتواجد دوما من يرغب بمساعدته. وبين هاتين الحكايتين تتأطر قصة آلا بثالوث الموت والجنون والطبيبة النفسية، فتختزل وضعها بالقطة الصغيرة البائسة التي دهستها سيارة وتركت لمصيرها وسط الطريق.
لاحظ فرويد من خلال جلسات العلاج النفسي أن توجيه المشاعر التي يكنها المريض لوالديه أو أي من رموز السلطة في حياته نحو طبيبه، هو من أساسيات العلاج النفسي. فمن خلال إسقاط المشاعر التي تتضمن حتما توجيها عاطفيا، على كاهل شخص آخر وتأملها من خلال الوسيط ومناقشتها، تتم معالجتها. وبالتالي يتضمن العلاج الحقيقي تبادلا للمشاعر. ومع أنه عاش داخل حدود عرينه، محاطا بكتبه العلمية وتماثيله وسجاداته الشرقية، حياة إيروتيكية غنية، لكنه كان مدركا أن الهدف من العلاج هو كسر طوق السلطة المطلقة داخل ذهن المريض. فبمرور الوقت تتغير طبيعة علاقة المريض برغباته القديمة والمستجدة، كما تتغير وجهة نظرته حيال السلطة أيضا، وينعكس ذلك على علاقته بالطبيب. وبعد أن يتمكن المريض من اجتياز وادي الآلام في نهاية العلاج، يصبح قادرا على رؤية الطبيب بصورة أكثر واقعية، باعتباره مجرد فانٍ آخر مثله يعاني الآلام والضعف مثله. كانت أمنية آلا الوحيدة تتمثل في موضوعة الثقة؛ أن تتمكن من تصديق أحدهم حتى النهاية، فلم يكن في حياتها شخص يمكن لها الوثوق به.. فقارنت ظمأها وتعطشها للحب بنمط القائد النازي هتلر، الذي أحب تلك الجماهير التي كانت تعبده. لأن حباً بهذا الزخم والكثافة التعبيرية الجمعية وحده كفيل بتبديد الحرمان الطويل، وترميم الشعور بالنقص لديها، حتى وإن لم تبلغ الكمال. وقد نجحت الطبيبة في ذلك، ومنحتها آفاقا جديرة بإنسانيتها
المستلبة.