التمظهرات الاجتماعية والتاريخيَّة في رواية «مزامير المدينة»

ثقافة 2019/05/07
...

  أمجد نجم الزيدي
 
 
عند قراءتنا لأي منجز ادبي وخاصة ان كان ينتمي الى الاجناس السردية، فنحن نقع تحت هيمنة سؤال كبير وهو الى اي مدى استلهم هذا النص الواقع، او التاريخ او اي من السياقات التي ربما تطمئن حاجتنا الماسة للوصول الى المعنى، حيث يصبح المعنى هنا حاجة ضرورية للقارئ التقليدي الذي تعود على ان الفن كتب انعكاسا للواقع، وربما هذا ما عززته بعض الأيدولوجيات التي حملت النص الادبي مسؤولية لا تكمن في ذاته، وانما باعتباره بيانا ايدلوجيا، والذي انسجم بصورة او بأخرى مع ثقافتنا السياقية التي لا ترى نفسها الا في سياق مفاهيمي معين، بينما الادب في العالم مر بمراحل عديدة ولم يكن مستكينا لهذا التوجيه، بل وصل به الامر الى التشكيك بنفسه، او ادعاء البراءة من تلك السياقات كالواقع مثلا او التاريخ الى اخره، عندما ظهرت روايات الميتافكشن وما يعرف بما وراء السرد التاريخي، وعلى ضوء هذه النقاط التي اصبحت معاييرا للتلقي، يبحث القارئ عن منافذ للولوج الى عالم النص، تبعا لتوجهاته الثقافية والمعرفية والايدلوجية، وربما كانت الرواية خير مثال لتلك التجاذبات التي مر بها الادب وخاصة علاقته بما ذكرناه سابقا.
 
حضور التاريخ
    لذلك فتلقي اي نص روائي، يعتمد على الزاوية التي ننظر منها الى النص، وليس الى معايير ثابته، حيث ان ثقافتنا العربية وخاصة في مجال التلقي، مشتتة بين اتجاهات مختلفة تبعا لاختلاف القارئ ومدى ثقافته، فنحن نتلبس تلك الثقافة التي نحاكم بها نصوصنا، اي نجلبها عند الحاجة من المشجب او الرف، ولا اريد ان ادخل في هذا الجدال بقدر ما اريد ان اشير الى نقطة مهمة استوقفتني وانا اقرأ رواية (مزامير المدينة) للروائي علي لفتة سعيد، وهي ان الخطاب الروائي الذي بني كمنلوج داخلي (انفصامي) موجه الى (انت/ انا النص)، يوزع اشاراته او دواله وفق خارطة منتظمة، بنيت على تصور تاريخي لفترة معينة من تاريخ العراق المعاصر، واحداث مثلت مفرقا تاريخيا مهما فيه، حيث ما قبل 2003 وما بعدها، تتمثل تلك الحياة وانعكاساتها، وكل تمظهراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، الروح الخفية لحركة التاريخ، اي ان كل شخصية مثلا كـ (محسن وسلوى ومجتبى الى اخره)، او مكان كـ (المدينة والمقبرة والمقهى وجميع امكنة الرواية) لا يمكن لها ان تأخذ مدياتها الا بإسقاطها في خانة الزمان التاريخي (لا شيء لتأريخك سوى انغمار الذات، والبحث عن حلم خاو تركته روحك في غيابة الجب العميق بلا مرسى، وكأن الحرب تلاحقك وأنت تعود مجددا من خدمة الاحتياط بعد سنين عشرة قضيتها بين القادسية وعاصفة الصحراء، وصارت لديك الاسماء بحسب ابطالها وطغاتها) ص9، حيث جعل من هذا الزمان سياقا، للملمت كل خيوط النص مبنى على الفعل، فالتاريخ فعل والسرد فعل، اذ يموت كلاهما ان توقف فيهما زخمه، ولنأخذ فقرة واحد من احدى صفحات الرواية لنرى تأثير الفعل في بناء خطاب الرواية، حيث نجد ان فقرة متكونة من اربعة سطور في صفحة 175  مثلا تحتوي على 10 افعال بالإضافة الى بعض المفردات التي تحمل ضمنا معنى الفعل ايضا، وهذه الافعال تعطي للنص ذلك الاطار الزمني المتدفق الذي يضم كما اسلفنا كل عناصر الرواية الاخرى ويجعلها تجري في سياق الرؤية التاريخية التي وظفها النص، وهذا السياق تشترك فيه هذه الرواية مع روايات سابقة للكاتب، او ان هذه الرواية تعتبر امتدادا لها، حيث ان الشخصية الرئيسية هي نفسها في تلك الروايات السابقة، اي ان هذه الرواية تنتظم في سياق متسلسل مشترك مع تلك الروايات وخاصة رواية (الصورة الثالثة) الصادرة عام 2015.
قد يجد بعض القراء ان الرؤية التاريخية مكشوفة داخل النص، من خلال الخلفية التاريخية التي وضعها الروائي لأحداث روايته، والتحولات التي رافقت الشخصية الرئيسية وانتهاءها بمهنة الدفان، لذلك لا تحتاج منا جهدا تأويليا لنربطها بمرجعياتها، وهذا التصور يبنى على مجموعة الاشارات الكثيرة التي يحفل بها النص للإشارة الى هذا التأريخ المفترض للأحداث وخاصة الاحداث الطائفية، وموقف الراوي من الاحداث السياسية الى اخره، والتي ينساق معها الروائي في بعض الاحيان، مما قد يكشفها ويعريها للقارئ، منها ما هو مباشر كـ (ماذا لو تغربنا لعدنا الان بامتلاء كامل وحصة من مؤسسة السجناء السياسيين) ص21، و غير مباشر كـ (فوجدت في سيماء وجهه برودة لا تشي بنار التعصب والعصبية ولم يمر الخيط على لحيته ليشذبها، وتيسر لك ان تطلق تأففا ثانيا، فلم يحرك كفيه من مقود سيارته (السايبا) الايرانية التي غزت مثيلاتها شوارع المدن) ص133، حيث نرى ان المثال الاخير وما يقاربه من امثلة تحفل بها الرواية يعتمد في بناء دلالاته على ما تمثله من بنى سيسيوثقافية، مثل الاطار التاريخي لها كما اسلفنا مرجعا وسياقا، يكشف تلك البنى، وخاصة احد احداث الرواية المهمة الذي استبطن تلك البنى وهو المرتبط بسلوى وعلاقتها بزوجها والشخصية الرئيسية للرواية.