أوهامٌ وأغلاطٌ واجبة التصويب {2-2}

ثقافة 2023/10/09
...

  د. نادية هناوي  

تحدثنا في القسم الأول من هذا المقال عن الناقد الذي يتخذ من الذاكرة الفرديَّة موئلا ومرجعا، فيكون التخييل السردي طاغيًا على نقده الموضوعي. ومثالنا الدكتور جابر عصفور الذي أوقعته ذاكرته في أغلاط وأوهام أضرت به وبالشاعرة الكبيرة نازك الملائكة على النحو الآتي: - إنه وضع مبحث نازك الملائكة بعد (شعراء الإحياء وجماعة ابولو وأبي القاسم الشابي) وتحت عنوان أثير هو (التوهج الأخير للرومانسيَّة) مما يوحي للقارئ بأن الشاعرة تنتمي إلى ذاك الجيل الرومانسي وأنها تمثل أواخره. وهذا خلاف الحقيقة، فالشاعرة مثلت جيلا شعريا جديدا ورائدا، كسر عمود القصيدة وأسس للحداثة الشعرية العربيّة وسمي (جيل الرواد) ومثله أربعة شعراء عراقيين هم: نازك الملائكة، وبدر شاكر السيّاب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري.

ـ لم يلتقِ الناقد عصفور بنازك الملائكة سوى مرة واحدة عام 1966 وكان وقتذاك طالبًا في جامعة القاهرة، ولم يحصل على الماجستير بعد. فسرد لحظة لقائه بالشاعرة الكبيرة وقد حلت ضيفة على أستاذته سهير القلماوي في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة وسألته: هل تعرف يا جابر الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة أم لا تعرفها؟، وردَّ بسؤال استنكاري: ومن ذا الذي لا يعرف الشاعرة الكبيرة؟، إنّي أعرف الدواوين التي أصدرتها، فسألته الأستاذة ثانية: ألم تقرأ شعرها؟، وردَّ، بلى، وقد فتنتني قصائدها الليليّة وأنّها ذكرتني بشعر جبران. واستمر يصف لحظة اللقاء مركزًا على وجه الشاعرة (يضيءُ بالفرحة/ الوجه الصبوح الباسم/ يتوهّج بفرحة الحياة والنهم إلى المعرفة/ صباحه الوجه ونضارة السمة/ هذا الوجه الجاذب كالمغناطيس/ العين التي تشعُّ ذكاءً نادرًا والوجنتين اللتين لمحت فيهما نوعًا من حدة الإرادة ومضاء العزيمة) ولا شائبة على هذا السرد السيري ولن نحمل تشبيه السارد عصفور شعر الملائكة بشعر جبران شيئا، ولكننا نقف عند هذه الصورة الابتهاجيّة للشاعرة، فنتساءل هل كان ثناء هذا الطالب سببًا في أن تفرح الشاعرة - التي كانت منتصف الستينيات في أوج شهرتها - هذا الفرح كله، وبسببه ركّز السارد على وجهها؟. 

- تداعتْ على لسان السارد عصفور ذكرى أخرى زمانها عام 1968 وموضوعها سماع صوت الشاعرة الكبيرة في المذياع (تدفق صوتها الرائق الواثق في نبرة رقيقة لا تعرف اللحن أو الخطأ اللغوي أو التلعثم.. وظلت نبرات صوت نازك تتدفق) فالسارد هنا لا يتحدث عن شاعرة رائدة كسرت عمود الشعر العربي، بل يتحدث عن شاعرة في مقتبل تجربتها غير معروفة، أعجبه منها إتقانها اللغة العربيّة وبعدها عن التلعثم، إلا اللهم كان هذا السارد مختصًا بالشعراء القدماء ولا يعرف عن شعراء الحداثة شيئا. 

-استحضر السارد عصفور نصًا قصيرًا حفظه من قصيدة (شجرة القمر) وكتب انطباعًا سلبيًّا عن ليله ورومانسيته اللتين لم تصمدا أمام وهج الواقع النهاري (..تسرّب إليها الزمان شيئا فشيئا تماما كما يتسرّب ضوء النهار فيمحو ضوء الليل الحاني ويستبدل برقة القمر قوة الشمس النهارية

الحارقة).

ـــ على الرغم من أن السارد عصفور لم يلتقِ مرة ثانية بالشاعرة وجهًا لوجه، فإنّه كان دائم التكرار لموضوعة مرضها وأنّها عاشت و (ماتت وحيدة بعد أن فقدت زوجها الذي ظل يرعاها طوال سنوات مرضها الطويل التي أوصلتها إلى قرارة القرار من ظلمة الليل التي تحولت إلى ظلمة القبر ورحم الله موتانا جميعا فهم أعزاء لا يزالون يعيشون بيننا في أعيننا ذكراهم كملائكة رحلوا كي يأتوا بالغد.) وهذا توهم كبير وخطير ما كان لناقد مثل الدكتور جابر عصفور أن يقع فيه لكنها تداعيات (ذاكرته النقديّة) التي خالطها التخييل، فقال ما لم يقله أحد سواه، وهو أن الشاعرة مصابة بمرض نفسي اسمه (الاكتئاب العضال). 

وراح يكرر أمر هذا المرض ويبني عليه محصلات، أولًا وهو يلتقي لقاء عابرًا بعبد الهادي محبوبة في جامعة الكويت عام 1983 (قابلت الدكتور عبد الهادي محبوبة زوج نازك الملائكة الذي كان تخرج في قسم اللغة العربية آداب القاهرة.. وعرفت أن نازك الملائكة أستاذة تقاعدت وحبست نفسها في الشقة التي كانت تسكنها وزوجها وابنهما الوحيد البراق.. ظل السؤال عن سبب مرض الاكتئاب العضال الذي أصاب نازك الملائكة يؤرقني خصوصًا بعد أن أصدرنا كتابًا تذكاريًا عنها عام 1985 اشتركت فيه مع عدد من زملائنا.. وتصورنا أن صدور الكتاب سوف يخفف من وقع المرض، ولكننا كنا واهمين فقد ظللت أراها بين الحين والحين سائرة مع زوجها المرحوم عبد الهادي محبوبة وعيناها زائغتان ووجهها على امتقاعه متعلقة بيدي زوجها كغريق يتعلق بيد تنتشله من الغرق)، وبعد مرور عقدين أو أكثر على هذا اللقاء، تداعت الذاكرة ثانية ولكن بالسرد التراجيدي نفسه (طلبت من الدكتور محبوبة أن أزورهم لتحية الشاعرة الكبيرة فعرفت منه أنّها مصابة بمرض الاكتئاب.. كنت أراها وزوجها محبوبة في فترات الربيع يتريّضان معًا واضعة ذراعها في ذراعه كما لو كانت تتكئ عليه غير مدركة أو مهتمة بما حولها ماضية تحت قيادته في استجابة كاملة مذهولة عن الناس الذين يمكن ان تمر بهم أو يلقوا إليها بالتحية فيرد محبوبة بالنيابة عنها وهي متعلقة بيده كأنّها طفل ضائع تائه ذاهلن واعترف ان هذا المشهد أذهلني إلى أقصى درجة فما أبعد الفارق بين هذه السيدة المسنة الذاهلة الصامتة أبدًا التي كنت أراها والدكتور محبوبة يتريّض بها والسيدة الأخرى الجميلة المملوءة بالعافية التي قابلتها مع أستاذتي سهير القلماوي عام 1966).

وكرر السارد انطباعاته السلبية عنها ثالثة قائلا: (كانت النتيجة خفوت الأضواء عن نازك شيئا فشيئا مع بعض الاحباطات الشخصية.. إلى ان غرقت نازك في مرض الاكتئاب الذي ظل ملازما لها في السنوات القليلة التي عاصرتها فيها في الكويت).

- بالغ السارد عصفور في توصيف تصادي النقاد مع كتاب الملائكة (قضايا الشعر المعاصر) مهوِّلًا الأمر بأنّه كان في شكل (حملات احتجاج عنيفة) و(بكل أشكال الرفض الحادة) وجمع السرد بالنقد وهو يقول: (لا يستطيع أحد أن يتصور عاصفة الهجوم على كتاب نازك ورفضه من أبرز أعلام الشعر الحر وكانت البداية من مجلة شعر اللبنانيّة.. رأى شعراء مجلة شعر في كتاب نازك الملائكة نموذجا للنقد الرجعي.. ولا أزال اذكر المقالات الحادة التي كتبها عبد القادر القط ولويس عوض ومحمد النويهي فضلا عن صلاح عبد الصبور وأقرانه من الشعراء في نقد كتاب نازك واتهامها بالمحافظة)، والحمد لله أن هذا السرد انتهى بشهادة شاهد من أهل الشأن تؤكد أن النقاد المصريين كانوا من المتصادين مع الشاعرة الكبيرة التي كانت قد ألّفت كتابًا عن شاعر منهم هو علي محمود طه وتضامنت شعريا وحياتيا مع قضاياهم المصيريّة. واختارت بلادهم لها مستقرًا لكن الأمر كما يبدو ينطبق عليه قول الدكتور عصفور إن (آفة الفكر والإبداع التعصّب المقيت). 

- توسع السارد عصفور في انطباعاته السلبيّة عن نازك الملائكة ليشمل معها شاعرًا عراقيًا آخر (واذكر أن البياتي في آخر لقاء لي معه في بغداد كان مذعورًا يتلفت حوله دائمًا ولا يتكلم إلا همسًا وفي حذر ولذلك لم استغرب انه استغل الفرصة التي أتيحت له فهرب إلى دمشق التي سبقه إليها الجواهري.. أما نازك فكانت قد تركت العراق قبل ذلك بسنوات وأبلغنا زوجها أنّه قرر أن يستقر في مصر بعد أن ينتهي عمله في الكويت)، وفاته أن الشاعرة عادت لفترة قصيرة إلى بغداد بعد تقاعدها في الثمانينيات كما تذكر أختها إحسان الملائكة وأن حرب الخليج الأولى كانت هي السبب في اختيارها المكوث في القاهرة. 

- توهم السارد عصفور أن النقاد والدارسين في العراق توقفوا عن ذكر الشاعرة والإشادة بدورها الرائد، وافترض أن ذلك تسبب في مرضها (كلي ثقة أن حملات التشكيك في ريادة نازك لحركة الشعر الحر قد تركت جرحا عميقا في نفسها لم تبرأ منه قط). ولو عمل السارد إحصائية بسيطة لما كُتب من رسائل واطاريح وما أُلف من كتب داخل العراق عن شعرها خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات لوجدها أكثر من أن تحصى. 

ولأجل تصحيح هذه الأغلاط والأوهام وإبانة الحقيقة للقارئ العربي نقول ما يأتي: 

أولا/ إنّ الشاعرة وزوجها كانا عام 1968 ما يزالان يعملان أستاذين في جامعة البصرة وانتقلا منها للعمل في جامعة الكويت عام 1970 ولقد استمرت الشاعرة في وظيفتها أستاذة جامعيّة إلى أن تقاعدت عام 1985. علما أن الشاعرة كانت في الثمانينيات مواظبة على حضور مهرجان المربد كما ذكر ذلك أدباء وكتّاب سردوا في مذكراتهم أنها كانت تدخل في نقاشات معهم، فالأستاذ حارث طه الراوي مثلا ذكر أنه التقى بها عام 1986 فأخبرته أن والده الدكتور طه الراوي هو الذي حبَّبَ إليها كتاب الأخفش.

ثانيا/ إنّ تخصص الدكتور عبد الهادي محبوبة هو التاريخ، فكيف يتخرج في قسم اللغة العربية؟! ولقد كانت أطروحته بعنوان (نظام الملك الحسن بن علي اسحق الطوسي دراسة تاريخيّة) وله أبحاث تاريخيّة أخرى وهي قليلة منها (وثائق تاريخيّة في العهد الأول من حكم الدولة السلجوقية) منشور في مجلة معهد المخطوطات العربية، 1964 و(مزايا العربية في تطوير الحضارة الإنسانية) في مجلة البيان الكويتية، 1972. 

ثالثا/ كان الكثيرون من الذين عاصروا الشاعرة الكبيرة أدباء وغير أدباء يعرفون ميلها إلى العزلة، لانشغالها بأبحاثها وكتبها ولأنّها كانت حسّاسة وشديدة التأثر بهموم الوطن العربي لا سيما قضية فلسطين فضلا عن طبيعتها الحزينة التي لازمتها ولازمت شعرها. ومن المؤكد أن أساتذة قسمها وطلابها في جامعة الكويت كانوا يودون زيارتها واللقاء بها لكنهم كانوا أيضا يحترمون رغبتها ولا يحرجونها أو زوجها فيطلبون اللقاء بها أو زيارتها في بيتها، باستثناء الشاعر عبده بدوي. واستغرب السارد عصفور ذلك بينما هو أمر طبيعي لأن الشاعر بدوي شخصية معروفة ومهمة، وكان من أقران نازك الملائكة.

- إنَّ ابن الشاعرة الوحيد اسمه (برّاق) وليس البراق، وأن قصيدتها (الكوليرا) لم تنشر في الشهر نفسه الذي نشرت فيه قصيدة السيّاب (هل كان حبًّا) وأن روايتها الوحيدة (ظل على القمر) كتبتها عام 1977 ولم تنشر إلّا بعد نشر مجموعتها القصصيَّة (الشمس وراء القمة) من قبل المجلس الوطني للثقافة بالكويت عام 1997.

ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن اعتذار الدكتور عبد الهادي محبوبة ترك في نفس الدكتور جابر عصفور أثرا سيئا، فتداعت مخزونات الذاكرة الفردية بهذا الشكل الانطباعي السلبي الذي لا يخلو من تخييل أوقع السارد عصفور في أوهام وأغلاط تاريخية ونفسية وفنية، بل جعل صوت الأنا يتضخم، فأظهر السارد نفسه بمظهر الكريم الذي قابل ذاك التصادي بسعة الصدر: فعمل أولا/ على إصدار كتاب تذكاري عن الشاعرة مع زملاء له، وثانيا/ انه كان دائم السؤال عنها ويزورها (لم أنسَ نازك الملائكة ودورها الرائد..) ولم يقل ما هذا الدور الرائد ولم يفصح عن السبب الذي حمل عائلة الشاعرة على المجيء إلى القاهرة. وثالثا/ أنه اختار تكريمها في (مؤتمر المرأة العربية والإبداع عام 2002 ولم أجد أهم من نازك الملائكة وأحق منها بالتكريم فاخترت تكريمها بطبع أعمالها.. وبالفعل اتفقت مع الدكتور محبوبة الذي تهلل وجهه بالفكرة) علما أن محبوبة توفي عام 2001، وأن نجل الشاعرة نفى - في تصريح له نشر بتاريخ 29 آذار 2002 في مجلة البيان الكويتية - ما يتداول في مصر من أن والدته في حالة صحية خطيرة أو أنها في غيبوبة، وأكد أنها بخير ومشغولة بالهم الفلسطيني وأنها بطبيعتها تميل إلى العزلة. ولو أن الشاعرة كُرمت في هذا المؤتمر لذكر نجلها ذلك. ويخيل إليّ أن التكريم جاء على خلفية ما أعلنه الابن عن والدته الشاعرة للرأي العام. ولو صح هذا الاحتمال لكان حريا بالدكتور الوزير أن يخصص المؤتمر لنازك الملائكة وحدها لا أن يكون عن المرأة والإبداع عموما.