الحكي الواقعيّ والسرد المتخيّل

ثقافة 2023/10/12
...

  محمد صابر عبيد

تشتبك مصطلحات السرد الحديثة اشتباكاً كبيراً في الثقافة النقدية العربيّة المعاصرة، بسبب الترجمات المختلفة لنظريات السرد من لغات الآخر على نحو يثير كثيراً من الالتباس والتداخل والتضاد، وإذا ما أردنا البحث في جذور بعضها عربيّاً فقد نجد لها ملامح في الموروث الثقافيّ واللغويّ العربيّ «الفصيح واللهجيّ»، إذ يحتوي الموروث اللهجيّ - حين ندقق في بعض الاستخدامات داخل المحكي الشعبيّ لدى شعوب مناطق عربيّة معيّنة- على ألفاظ ومصطلحات كثيرة في هذا المجال، إذ نجد أن مصطلح «الحكي» يختلف في مساحته الإجرائيّة - بطبقات معيّنة - عن مصطلح «السرد» في المحكي الشعبيّ لريف مدينة الموصل في العراق، بينما تتساوى دلالتهما لدى قسم من المشتغلين في حقل السردية العربيّة الحديثة من نقاد ودارسين وقرّاء.
ففي ريف الموصل يُستخدم الفعل «سرد/ يسرد» لوصف من يقوم بفعل الكذب؛ أي الذي يصنع خبراً من خياله لا أساس له في الواقع، بالمعنى الذي يحتاج فيه هذا الخبر/الحكاية إلى  قدر من التأليف الذي ينطوي على حبكة ونوع من الحجاج، وهنا يمكن الفصل على هذا الصعيد وفي حدود هذه المرجعيّة بين مصطلح «الحكي» ومصطلح «السرد»، إذ يأتي مصطلح «الحكي» بوصفه نقلاً لواقعة طبيعيّة حقيقيّة؛ لا يتدخّل الراوي كثيراً في تزويقها وتخييلها ودعمها بما تيسّر من الحبكة، لأنّها ذات مرجعيّة واقعيّة ويتحرّى الراوي في روايتها صدق التعبير عن الحادثة ورسم حدودها بدقّة.
أمّا مصطلح «السرد» الذي يساوي في هذه المرجعيّة «الكذب» فيحتاج إلى  تخييل كامل، يدخل فيه الراوي منطقة التأليف ويحتاج في ذلك إلى  حبكة جديدة وطريفة، وإلى مزيد من الحجاج والإقناع لدعم حضور الواقعة المتخيّلة المؤلَّفة لدى الآخر «المتلقّي»، بما يتطابق مع فكرة الإيهام التي يقوم عليها العمل الأدبيّ في أصل تكوينه داخل محفل المخيّلة، ويتساوى الكذب هنا مع التأليف، والتأليف بلا أدنى شكّ يمثّل جوهر العمليّة الإبداعيّة حين تقوم بإنتاج نصّ أدبيّ تخييليّ داخل حاضنة خلّاقة، تنجح في صوغ حادثة من وحي خيال الأديب لا وجود فيه للشخصيّة أو الحدث أو الزمن أو المكان على أرض الواقع والحقيقة.
تؤسّس العلاقة بين الواقعيّ والمتخيّل لولادة النصّ الأدبيّ حين يذهب المبدع كليّاً إلى منطقة التخييل، ويبدأ بتفعيل آليّات وتقانات الصياغة الأدبيّة الخاصّة للحصول على نصّ أدبيّ يُنتَج في مختبر المخيّلة، لا علاقة له بالواقع لأنّه من صنع مخيّلة الكاتب حتّى وإن كانت الحادثة في جذورها الحكائيّة مستعارة من الواقع، فالأصل في بناء النصّ الأدبيّ هو «التأليف» حين يقوم الأديب بتسخير طاقة مخيّلته لرسم حدود جديدة للواقعة النصيّة، تفكّ عِقدها مع جذورها الواقعيّة تماماً وتبدأ العمل في فضاء مغاير يعتمد اعتماداً كليّاً على طبيعة الصورة التخييليّة «التمثيليّة» الجديدة، في انفصال تام عن مرجعيّة الواقع.
ثمّة مقولة تراثيّة تخصّ الشعريّة العربيّة هي «أعذب الشعر أكذبه» لتعني هنا في مفهوم الكذب منطقَ التخييل حصراً، فكلّما حلّق الشعر في سماء التخييل أكثر وحاز على مكمّلات جماليّة في التشكيل والإبهار والإدهاش -عندهم- حصل على عذوبة أكبر، وهذا ما ينطبق على فنون القول كلّها في هذا الإطار؛ بل الفنون بعامّة بوصفها إبداعات تنهض أساساً على فاعليّة التخييل وضروراته وانفتاحاته وتمثّلاته، وهي تمتدّ نحو مساحات وفضاءات شاسعة طمعاً في تحفيز المتلقّي لأجل تواصل أعمق وأكثر جماليّة مع الفنّ، وتحقيق العلامة الكاملة في نجاح عمليّة التلقّي على طريق نشر الفرح والسعادة والمتعة والفائدة في مجتمع التلقّي.
يقتضي الأمر هنا الفصل بين الواقع الاجتماعيّ لدلالة الألفاظ والواقع الأدبيّ لها، في سياق تمثّل الرؤية الاجتماعيّة ذات الطابع الثقافيّ من جهة؛ والرؤية الأدبيّة الإبداعيّة ذات الطابع التخييليّ البعيد عن الفضاء الاجتماعيّ من جهة أخرى، بما يجعل من العمليّة الإبداعيّة في نموذجها الخلّاق ابتداعاً لا يخضع لآليّات الوصف الاجتماعيّ في ثنائيّة الصدق والكذب، لكنّنا على صعيد بناء المفاهيم وتشكيل المصطلحات لا بأس أن نستعير من المرجع ما هو متاح ومفيد وصالح لهذه المهمّة، ومن ثمّ نعالج المصطلح معالجة دقيقة تتناسب فعليّاً مع قدرته على الاشتغال الصحيح والمناسِب والمنتِج في حقل العمل الإجرائيّ.
إنّ واقع المصطلح السرديّ -على نحو خاص- في الدرس النقديّ العربيّ الحديث يعاني من مشكلات كثيرة، من أبرزها الخلط المفاهيميّ لدلالة المصطلحات وتداخلها أحياناً إمّا بسبب الترجمة أو بسبب عدم الدقّة أو عدم الفهم الجيّد والواضح، فضلاً عن أسباب أخرى تجعل حتّى معاجم مصطلحات السرد الحاضرة في هذا الدرس ذات فائدة محدودة، فهي -في أغلبها- تعاين صورة المصطلح وحركته وفعاليّته ومستلزماته وأدواته ذات الطابع الإجرائيّ معاينة ناقصة، ولا توفّر للمتلقّي المجال الأوفى للأخذ والاستخدام بما يجعل الطبقة الغائمة في رصده وتجلّيه أوسع وأكبر من غيرها، وهذا يحرم المصطلح ويحرم مستخدمِه من الحضور الفاعل والأصيل القادر على تمثيل الرؤية النقديّة أجلى تمثيل. من هنا علينا أن نُعنى بالجهاز المصطلحيّ في الدرس النقديّ السرديّ الحديث على وفق آليّات جديدة؛ تتجاوز إخفاقات ما موجود من معاجم كان لها التأثير السلبيّ على هذا الدرس، وأسهمت في مضاعفة التعمية التي جعلت درسنا النقديّ في مجال السرديّات عسيراً على مجتمع القراءة والتلقّي، إلّا في حدود ضيّقة جداً داخل دائرة المتخصّصين ممّن خبروا هذا الفضاء وعرفوا مضايقه، وهم قلّة قليلة لا يسعهم في النهاية تحقيق التداول المطلوب لفهم الظاهرة السرديّة الحديثة والتوافق معها والارتفاع بها إلى ما يجب أن يكون.