عواطف مدلول
رغم عشقها للمطر لكنها كانت تدعو الله بحزن عميق وألم شديد ألا ينزل الماء من السماء، حتى لا تعيش موقفا محرجا وصعبا جدا عليها، حينما تتعرض للانتقادات والتجريح من قبل الآخرين، الذين يوجهون لها اللوم دوما على ذهابها للمدرسة بهكذا أجواء، وهي في حالة مرضية لا تسمح لها بذلك، فقد أصيبت بشلل كامل بسبب خطأ طبي جراء (ابرة) لقاح فاسدة، جعلتها تدفع الثمن طوال سنوات طفولتها ومراهقتها.
حياة سرحان مواليد (1990) التي اختارت اسمًا آخر لها بعد وجدت أن ( حياة) لا يمثل واقعها ابدا، بل بالعكس تماما فشعور الموت البطيء كان يرافقها يوميا، نتيجة وضعها الصحي، لذا لقبت نفسها حينما كبرت بنرجس التركمانية وعرفت به، حيث ولدت بالموصل ونشأت بمجتمع قروي جاهل يعتبر المصاب بالاعاقة لا وجود له، لكن حبها للحياة وارادتها القوية دفعاها لمحاربة كل شيء يقيدها ويحبسها بسجن الإعاقة، الفقر والمرض والظروف والتنمر، حتى تمكنت من شفاء نفسها بنفسها، والتحرر بفضل الله، ومن ثم أمها التي لطالما كانت تعمل لها علاجا طبيعيا بالبيت لمدة تستغرق ساعات طويلة مستمرة، وبعد أن استطاعت الوصول للشفاء الجزئي طلبت منها أن تعينها على تحقيق حلمها بالالتحاق بالمدرسة كحال بقية البنات، ولبّت رغبتها فعلا وهي بعمر الثماني سنوات.
تقول نرجس: معاناتي لا يمكن أن توصفها الكلمات فقد مرت المراحل الدراسية بصعوبة بالغة تعبت جدا خلالها بسبب الطريق، لدرجة كان كل من يراني يقول لي ليس من الضروري أن تأتي وأنت بهذا الوضع، شعرت بالضياع وقتها، كنت أحاول المشي ثم أسقط على الأرض أمام الناس، ولا أذكر أنني دخلت يوما للمدرسة وملابسي نظيفة إلا وقد اتسخت بالتراب ودموعي بعيني، لذا أصبت بالتوحد والسواس القهري، ومع ذلك تخطيت كلك ذلك بتحدٍ كبير من انسانة متمددة على الفراش لاحول ولاقوة لها، إلى اخرى تعلمت استخدام الكرسي أو العكازات بدون مساعدة أطباء ولا علاج.
وعن هواياتها وميولها الفنية اكدت عندما جلست في البيت فكرت أن تستغل فراغها فلجأت للرسم لأن كانت لها محاولات بسيطة سابقة، فمنحته المزيد من وقتها واهتمت بالولوج لعالمه، وذلك فجر لديها حلم أن ترسم نفسها، وهي تمشي بلا عكازات ولا كرسي متحرك، وترسم الأماكن التي تحبها ولا تستطيع زيارتها كونها معاقة لا تغادر المنزل.
الهروب من عصابات داعش تتأبط عكازها في ساعات متاخرة من الليل ومفارقتها اهلها كانت الاسوء بالنسبة لها، لكن لحظات اللقاء والاجتماع بهم عوضتها كثيرا، فكان العبور لتركيا الخيار الافضل بعد نجاتهم من موت اكيد، وتلك المحطة شكلت فارقا كبيرا في حياتها مبينة: أحلى أيام عشتها هناك وقد عرفت فيها ان إعاقتي ليست هي سبب حزني، بل البيئة المحيطة والمجتمع الفاشل الذي كان ينظر لي بالعين الصغيرة، اما في تركيا فان الناس يعطون قيمة كبيرة وحبا حقيقيا لذوي الاعاقة وبصدق يمنحونه الامان والاهتمام، لذا استطعت أن أخرج واتصرف حالي حالهم واتعامل معهم بدون فروقات وحواجز، ولمدة ثلاث سنوات شاركت بمركز حكومي لذوي الاعاقة تخرجت فيه الأولى، اذ كان يضم عددا من النازحات من العراق وسوريا وكذلك بنات تركيات، وبفترة قصيرة أنجزت أشكالا شتى من الاكسسوارات وصناعة لعب الاطفال، التي لاقت إعجابا ودعما كبيرا، لاسيما أنني كنت أصغر المشتركات عمرا، حيث دخلت معهم بسن 18 عاما، وتعد تلك أول مشاركة لي بفعالية ابداعية، لكن عندما عدت لبلدي تركت هذه الهواية، لأن نوع الاقمشة غير متوفر لدينا، لكن الاهم من ذلك هو رجوعي لنفس المكان السابق، لكن بعقل وقلب مختلفين، اذ بدات احب نفسي واتصالح معها واتقبل إعاقتي ايضا.
تاثرت كثيرا بالتهميش الذي طال ذوي الإعاقة، فقررت أن تكون صاحبة صوت يطالب ويدافع عن حقوقهم، وتعرفت على الخبير الدولي موفق الخفاجي رئيس فريق ذوي إعاقة من بغداد، شاركت بالورشات التي أقامها بالموصل وأصبحت على اثرها ناشطة بهذا المجال، محاولة المساهمة بتقديم الدعم لاصحاب الهمم امثالها فصار اسمها منتشرا بالموصل ولديها حضور بمؤتمرات انسانية وفنية، حيث تبعث لها الدعوات من قبل جهات ومؤسسات مختلفة.
شاركت بنشاطات اجتماعية توعوية كثيرة كان اخرها مهرجان الماراثون تحت شعار (هدفنا معا لنبني السلام)، مع عدد من ذي الاعاقة، وقد كان يحمل رسالة مضمونها أن الإعاقة بالجسد وليس بالعقل.
من بين أمنيات نرجس بعد تخرجها من المعهد التقني أن تصبح سفيرة لذوي إلاعاقة، أو تحصل على وظيفة تحصد فيها ثمرة تعبها وجهدها.