ابتهال بليبل
في طفولتي المبكرة غفوت ذات ليلة شتوية حالكة على حلم مؤرق بعد قراءتي لقصة (جاك وحبّة الفاصوليا السحرية) حتى أنني ظهر اليوم الثاني بقيت أرفع بطرف الملعقة حبات الفاصوليا المطبوخة من الإناء وأضعها بتردد على الرز، وأنا أخطط -بتصميم طفولي ساذج- لزراعتها في مكان ما في حديقة بيتنا! فقد سحرتني جداً فكرة تسلق هذه الشجرة، وما يمكن أن يجري من أحداث كبرى ومدهشة مثل الوصول لأرض خيالية -ليس هروباً من واقع معين- بل لغرض السماح لمخيلتي بتجاوز كل ما هو سطحي في هذا الواقع. ومن ثمّ البحث عميقاً عن الحقيقي والأصيل والجميل والمدهش أو لاكتشاف الصدق.. الصدق وراء مغزى الحكاية التي كانت في كل مرحلة عمرية تخاطب خيالي بطريقة جديدة.
في أساطير «الفايكنغ» أو الميثولوجيا الاسكندنافية.. كان يُعتقد أن الكون ما هو إلّا شجرة هائلة ضخمة تتفرّع من أغصانها الكثير من العوالم، وهو تصور قد يبدو غريباً إلّا أنّها الحقيقة التي يقدمها السرد الخاص بشجرة «إغدراسيل».
ولم تكن هذه الأسطورة الأولى الوحيدة التي طرحت أهمية الاشجار، فهناك صور كثيرة لثقافات وأديان وحضارات مختلفة بتمييز الاشجار أو تكثيف رمزيتها بوصفها سرّا لكينونة مطلسمة لها فاعلية في ديمومة الحياة.
ولنتذكر دائماً شجرة العائلة التي تعلّق في بعض البيوت، أو تحفظ مطبوعة بعناية مع أعز مقتنيات العوائل، شجرة بعضها مورق ومتفرّع، وبعضها يخطّ عليه عبارة عدمية صادمة (لم يعقب) لتكون النقطة التي تنهي سطر وجوده.
هناك دائماً شجرة، شجرة تزهر بطريقة ما.. فقد قدّم لنا التاريخ الفني والأدبي حكايات وأساطير وقصص متناثرة ومتنوعة عن الأشجار، فهناك (شجرة اللبلاب) التي أبدعها محمد عبد الحليم عبدالله، والتي منها ارتبط هذا النبات المتسلق بكثير من تفاصيل الرواية التي تناوشتها السينما فحولتها إلى فيلم شهير، ومن ثمّ إلى مسلسل أكثر شهرة ليكون «اللبلاب» عندي دائما هو لبلاب الأفكار الأليمة، لذلك الصبي الذي تعقد من النساء وبقي خائفا من تسلق شجرة لا تصلح للتسلق أصلا.
بعدها بقيت أشجار عبد الرحمن منيف هي الأكثر حضوراً في ذاكرتي في عمله الأول (الأشجار واغتيال مرزوق) حيث (الياس نخله) الذي خسر أشجاره وضيع جذوره إلى الأبد، ما نوع تلك الأشجار هل كانت نخيلاً، زيتوناً، صنوبراً.. المهم أنّها ضاعت منه.. بينما كانت (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم توحي لي دائماً بشجرة جرداء، تشبه فكرة عميقة، لا يمكن الوصول إلى قمتها.
أما (الأبنوسة البيضاء) التي اجترحتها مخيلة حنا مينا، فقد نجحت في خلق تضاد لوني في مخيلتي عن الأبنوس الذي من الممكن أن يفقد لونه الأصلي من أجل قضية ما، أو بسبب حزن قاهر.
الأشجار في الأدب لا تكفّ عن التبرعم والتكاثر والنضج على الرغم من موجة الجفاف والتصحر، فهي لا تحتاج إلى ماء وتربة خصبة في سهوب السرد، يكفي أنّها تمسك بالفكرة وتغرس في غرين خصب وتمتاح من معين ما لتنمو، مثلما نمت (شجرة الرمان) عند سنان أنطوان في (وحدها شجرة الرمان).
ومثلما هو (النخيل) عند جنان جاسم حلاوي.. فالأشجار في المنظومة الأدبية تقفز نحونا لتكون (دلالة) قد تتجذر في أعماقنا وقد تمرّ.. لكنّها في الحالتين ستترك ندبة ما، وتداع يجرنا إلى مدارات مختلفة.
الأشجار منذ كلكامش وغابة الأرز، وحتى آخر شجرة تنمو الآن في سطور كاتب ستظل دائمة الخضرة في عالم مواسمه قاحلة.
قد أفكّر في أن التأثير الجميل للأشجار لا ينفصل عن كونها ذكريات عن الحب، والخيال الخلاب، والحياة الأبديّة، تمثّل بشكل ما أفكارنا البريئة، الأكثر نقاءً حتى من مرجعياتنا الثقافيّة والأدبيّة، وأنّها أيضا العملية الأقرب إلى التأمل، وهي بالضرورة غير مسؤولة على الإطلاق عن الكوارث البيئيّة والمناخيّة – دائماً ما أفكر بحرائق الغابات- بمعنى أن أشجار طفولتنا أكثر تأثيراً من أشجار اليوم التي دوماً ما أراها في أراض قاحلة حيّة أكثر منها ميتة.
يتكرَّر في الآونة الأخيرة الحديث عن الطاقات السلبيّة.. بعض الأساليب وربما أهمها الجلوس تحت ظل شجرة والامساك بجذعها وأنت حافي القدمين.. هذا الاحتضان يعيدك للبدايات.. للجذور ويجبرك على إعادة النظر في علاقتك مع نفسك ومن ثم مع الكائنات الأخرى.
لكن بعض تلك الأشجار التي تلوح أذرعها في الأفق وكأنها غاضبة تجعلني أفكّر أيضاً في الرعب، تلك التي تخبرني بما يستحضره الخيال الغامض والوحشي، مثل التي سلّطت الأضواء عليها عالميّاً بكونها تشبه لوحة «الصرخة» الرسام النرويجي إدوارد مونش، وهي تدفعك للتوقع «بأنّك في غابة مسحورة، وكأنّها تتحرك نحوك ولكن تتوقف عندما تنظر اليها».
ما يجذبني للاستعانة بما تحدثه الأصوات المنبعثة من أغصان الأشجار ليلاً.. هو الأرق القتّال، بين بحثي عن ملجأ بعيد، وبين رغبتي في تجاوز كل صوت أثناء النوم.. ذلك الأرق الذي يرتبط كلياً بالخوف والقسوة، بطريقة تعريفه لضعفك، بخساراتك، وبالسلوك الذي تتمناه من أجل الاستمرار، لهذا:
أفكر بالطريقة التي تمكنّني من اقتلاع جذور هذه الشجرة؟
الشجرة التي تتربّص أغصانها بنوافذي..
يؤرقني حديثها مع ما تحمله الريح العابرة، وما تحدثه من ضجيج.. فلا أنام.