محمد صابر عبيد
تمثل قضيّة الحاجة إلى المصطلح ركيزة أساسيّة من ركائز المعرفة البشرية بشتى أقسامها وفروعها وأشكالها، فهي القضيّة الأولى في إيصال المعارف والعلوم إلى مرحلة التكوّن السليم والبناء الرصين المتماسك والحيوي، لأن المصطلحات هي مفاتيح العلوم وبها تستطيع أي معرفة في الوجود أن تؤدي وظيفتها العلميّة والمعرفيّة على أكمل وجه، وتحقق ما تبتغيه من نتائج لها علاقة مباشرة بمستقبل الأمم الحضارية في التقدم والتطور؛ والارتفاع بإنسانيّة الإنسان إلى أعلى مرتبة ممكنة.
يقوم المصطلح في مجال المعرفة النقديّة على وجه التحديد بمهمّة جوهريّة لا يمكن التهاون فيها مطلقاً، وإذا ما قصرنا رصدنا هنا على النقديّة العربيّة المعاصرة سنجد أنّ إشكالات كبيرة تقف في سبيل وضع استراتيجيّة خاصّة بالمصطلح النقديّ العربيّ، ولا سيّما حين نكتشف أنّ النقديّة العربيّة الحديثة في هذا المجال هي عالة على المصطلح النقديّ الغربيّ بالدرجة الأساس، إذ تسهم الترجمة في تغذيّة الفضاء النقديّ العربيّ المعاصر بسيل من المصطلحات المستعارة من حركيّة المصطلح الغربيّ عن طريق الترجمة، بكلّ ما تحمله عمليّة الترجمة من مشكلات كبيرة لا حلّ لها
تقريباً.
إنّ هذا المصطلح النقديّ الغربيّ المترجم لا يصلنا خالياً من الخلاف بين المنظرّين الغربيين أصلاً على مستوى تشكيله ودلالته، ويدخل في خانق ضيّق جديد آخر حين الترجمة حيث تختلف فعاليّات الترجمة اختلافاً شديداً أحياناً، يسهم في ابتعاد المصطلح المترجَم كثيراً عن أصوله المعرفيّة الأصيلة؛ ويخضع لاجتهادات ترجميّة غالباً ما تكون غير موفّقة، فكيف يمكن الثقة بهذه المصطلحات وتشغيلها في أنساق ثقافيّة وأدبيّة ونقديّة ذات فضاء مختلف وأفق مغاير تماماً؟
تشهد الساحة النقديّة العربيّة الراهنة تشتّت المصطلحات وتفريعها على نحو يُضعِف قيمة المصطلح وقوّة أدائه في الميدان، ففي حين كان المصطلح النقدي العربي القديم فيه حاضراً ومستقرّاً على الرغم من محدوديّته وخروجه من حاضنة عربيّة صرف، نجد أنّ المصطلح النقدي العربي الحديث يعيش إشكاليّة حقيقيّة في حالة من التخبّط والفوضى والتناقض والغموض، بسبب طبيعة الحاضنة المعرفية والثقافية للمصطلح التي غالباً ما تكون عائدة إلى مصادر غربيّة مختلفة، لا تنجح تعدّد الترجمات وتشتّتها واجتهاداتها الفرديّة في الإحاطة باستراتيجيات المصطلح على النحو الذي يحفظ صفاء المصطلح ودقّته وكفاءته، ولا سيّما حين يتحوّل إلى الميدان الإجرائيّ ليشتغل على الظواهر والنصوص والفعاليّات النقديّة الأساسيّة.
لا شكّ في أنّ المصطلح ينبغي أن يكون ابن الثقافة وابن العصر وابن الرؤية وابن الوعي الخاصّ بأمّة بعينها، ولا بأس طبعاً من الترجمة بشرط أن تكون سليمة جداً أولاً ولا خلاف عليها، ثمّ يخضع المصطلح المترجَم فيما بعد إلى عملية تكييف ومعالجة نظريّة تجعلها صالحاً للعمل في الثقافة المترجَم إليها، لذا فإنّ خصوصية النصّ الأدبيّ العربيّ والظاهرة الأدبيّة العربيّة تقتضي بناء جهاز اصطلاحيّ نابع من حساسيّة الثقافة العربيّة الحديثة، والإفادة من تطوير القاعدة الاصطلاحيّة العربيّة القديمة من جهة؛ واستعارة مصطلحات بعينها من ثقافة الآخر المصطلحيّة بحسب الحاجة والمناسبة الضروريّة، بحيث حين يصير المصطلح داخل الحاضنة الثقافيّة والنقديّة العربيّة يكون في أعلى درجات كفاءته وصلاحيّته للعمل في الميدان الإجرائيّ، من دون مشكلات أو أسئلة تحيط به وتشكّك في جدواه وتقلّل من زخم أدائه على النحو الذي يجعل وجوده غير فاعل وغير مفيد.
إنّ تطبيق الرؤية المصطلحيّة الغربية أحياناً على الدرس النقديّ العربيّ يؤول إلى خطأ تقانيّ تكتيكيّ واستراتيجيّ في آن، لأنّها رؤية حضاريّة ارتبطت بسياقات وأنساق ومسارات فكريّة وثقافيّة وسوسيولوجيّة خاصّة بالمجتمع الغربيّ وحاجاته، واعتمدت في ذلك على مرجعيّة فلسفيّة رصينة لها تقديراتها الممعنة في خصوصيّتها؛ بما يستجيب للمزاج والجوّ والسلوك والوعي والممارسة التي يتحلّى بها الإنسان الغربيّ، وهي تختلف اختلافاً جذريّاً كليّاً عمّا سواه في أيّ مجتمع آخر؛ فكيف الحال بمجتمعنا العربيّ المتأخّر حضاريّاً عن المجتمع الغربيّ كثيراً! بمعنى أنّ هذه الرؤية إذا ما وجد صنّاع الحضارة العرب ضرورتها لمشروعهم الاستراتيجيّ؛ فلا بدّ والحال هذه من شبكة إجراءات تكييفيّة عميقة وتفصيليّة وأصيلة، تجعل من هذه الرؤية قريبة من المزاج والجوّ والسلوك والوعي والممارسة لدى الإنسان العربيّ المعاصر، على نحو يمكن فيه الوصول إلى مرحلة إنتاج معرفيّة مناسبة وصحيحة ومثمرة.
إنّ المسافة المعرفيّة الخاصّة بالمصطلح النقديّ بين التنظير والتطبيق هي مسافة خطيرة وشديدة الأهميّة؛ من حيث إدراك قيمة التحوّل من عتبة النظريّة إلى ميدان الإجراء بما يسهم في إغناء المرجع النظريّ وتجلّيه الواضح والمثمر تطبيقيّاً، وإلّا فلا فائدة من النظريّة مهما كانت ثريّة وغنيّة وعميقة في مجال الدرس النقديّ؛ إذا لم تثمر في مساحة الإجراء النقديّ وتساعد على إدراك القيمة التعبيريّة والتشكيليّة للنصّ الأدبيّ والظاهرة الأدبيّة.
يمكن على هذا النحو التعامل مع الكيفيّة التي نحصل فيها على المصطلح المناسب بوصفها كيفيّة ميدانيّة إجرائيّة، لها علاقة بالدرس النقديّ التطبيقيّ التراكميّ الذي يعمل على استيلاد المصطلح من رحم الإجراء النقديّ، وليس الاكتفاء باستيراده من الخارج بطريقة فرديّة تعتمد على جهد المترجم الفرد بطريقة عشوائيّة وارتجاليّة، ويحصل هذا حين نقوم بدراسة المنتج النقديّ الإجرائيّ الرصين للنقّاد العرب الأصيلين، ومن ثمّ السعي إلى الكشف عن حصيلتهم الخاصّة في إنتاج المصطلح واشتقاقه من ضمير النصّ الأدبيّ العربيّ والظاهرة الأدبيّة العربيّة، ليكون هذا المصطلح نابعاً من رؤية عربيّة وثقافة عربيّة ونقديّة عربيّة خصبة ومنتِجة.