د.جواد الزيدي
منذ ولادته في البصرة العام 1937 حتى رحيله في العام 2016 خارج الوطن الذي أحبه وعشق طبيعته وموجوداته كافة.. ظل الفنان موريس حداد أميناً لهذا العشق الذي تجلى عنده بالرسم وأشياء أُخرى، بيد أن الرسم هويته وعمله الوظيفي كونه مدرساً له في معهد الفنون الجميلة، حيث كرس جهده ووقته لهذا الجنس الجميل، معلماً لفن الرسم ومنتجاً له في الوقت نفسه بما تمنحه التراكمات الأدائيّة له من امكانية في التواصل والتنوع، وبفعل هذه الدوافع تمكن من المحافظة على التوازنات بين مهارة المعلم وخيال الفنان ومثابرته في إنتاج الكم والكيف الذي يقترن بالمواصلة في تحرير تجربته من المماثلة الأسلوبية أو الشكلية.
وبين هذا وذاك حاول المرور من بين الاتجاهات والمدارس والمضامين وتحرر الأشكال من قيودها المألوفة، بما تُفضي إليه التجربة اليوميّة وطبيعة المعالجات التي تفرضها اللحظة التعليميّة أو الجماليّة على السواء وأن تحتفظ كل منهما بخصوصيتها الأدائية.
ومن هنا تنوعت تجربته في الرسم، وحاول أن يضيف إليها دائما من منبر التجربة وفضائها الممتد والمحلق في مدن العالم المنتجة للخطاب الجمالي في ضوء سفره وانتقاله بين مدن العالم ولحظة اغترابه بعد عام 2003 .
وعلى الرغم من تخصصه الأول في فن الخزف بعد إنهاء دراسته له في (المعهد الوطني الفني في ليموجيه) العام 1982، الذي غادره بعد فقدان شيء من بصره بسبب الأبخرة المنبعثة من المواد الكيمياوية، إلا أنّه أحب الرسم وأخلص له في ثنائية لا يمكن الفكاك منها وانتقل إليه بشكل نهائي، خصوصاً تجربة الرسم بالألوان المائية التي شكلت ظاهرة في خلاصة تجربته، فهو يتخذ من الرسم التعبيري المستند إلى العفوية في تمثلات الشكل المرئي أساساً في مجمل خطابه الرسومي، الأمر الذي جعل لوحاته تتسم بحدة التعبير والصراحة من دون قيود تُذكر أو أدنى تردد على توشيح أفكاره على قماش اللوحة.
فموضوعاته حاضرة في الذهن من خلال الصور المخزونة عن البيئة والمحيط والعالم الموضوعي الذي أحبه، إذ تحضر دائماً صور الأهوار والمستنقعات وغابات القصب والنخيل، وشناشيل مدينته (البصرة) وأزقتها الشعبيَّة التي رافقته وحاول تصديرها إلى المراكز المهمة في لوحته أو مجمل خطابه المرئي، فقد حفلت لوحاته بصور الأسماك المتكررة والزوراق، وطير الحمام الذي يحمل غصن الزيتون، وصور النساء التي تميز في رسمها واحالتها إلى مرجعياته الميثولوجية أو التاريخيَّة وهي تعلن تأثره بتمثال (سيدة الوركاء) ليجتلبه من أعماق التاريخ إلى حاضره الراهن خدمة لأغراض الدلالة والايحاء الذي يريد من خلاله الاشتباك الايجابي مع الماضي والامتدادات االسرية إلى نسغ الأُصول الفنية والبشرية أيضاً.
ومن ملاحقة نقديّة لتجربة حداد يُلاحظ بأنّه غزير الإنتاج، فضلاً عن هوسه بعالم المرأة والتركيز على ملامح وجهها المستديرة وعيونها السوداء الواسعة التي تذكرنا بالفتيات السومريات مع معالجات متقنة لرموز بيئية محيطة بالفنان أسهمت في تأسيس جزء كبير من ذاكرته (زوارق، أسماك، بيوت قصب، شناشيل، اسطرلابات، توسيمات) ونقوش قديمة لها حضورها داخل فضاء الثقافة الرافدينية القديمة.
بالإضافة إلى ذلك توجد لديه بعض الأعمال التي تتسم بالطابع التجريدي الذي يحاول فيه تشييد شكله المرئي على أساس الشكل الهندسي بفعل تقسيمه إلى مربعات ومثلثات وأشكال أخرى غير منتظمة تتفرع لتصل إلى أجزاء أكثر دقة تتم معالجتها لونياً بما ينسجم مع الموضوع المراد رسمه، فإنه يجعل من محاكاة الأعمال المشهورة أساساً في تشكلات بعض أعماله التي أضحت مزيجاً من الجورنيكا ونصب الحرية الأمريكي، مع العائلة البغداديّة المكونة من ثنائية الرجل والمرأة، أو العائلة العراقيّة المكونة من نساء فقط وغيرها، وهي ترديدات لنتاج المرحلة التي أفضت إليها سمات التشّكيل العراقي وإلتصاقه بمتون المدينة وخصائصها البيئية التي دونها النقاشون في مشهدية الرسم العراقي.
يرسم مدنه الحالمة بالضوء مع وجوه وأقنعة وموديلات عارية، فإنّه التجريب على جميع المدارس والموضوعات بحسب الحاجات التي يقتضيها العمل الفنيّ، والانتقال من الواقعة الشعبية إلى المضمون الكامن في الشكل المجرد، بيد اِنّه يحمل دلالته التي تحيل إلى المكان المتعين (البصرة).
فهو انفعالي النزعة لدرجة البدائية في التعامل مع الواقع على الأقل.
فالصراحة الكامنة في أعماله تؤشر هذا الجانب بوضوح في لوحاته المعروضة التي تروي ذاتها بحرية تامة، لأنها في سياق البناء والتكوين والإخراج تمثل شخصيته المعنوية تمام التمثيل.
فالجانب العلوي يفصح عن حرية في الرسم واستخدام المواد الخام، مثلما تُفصح التعبيرية كنزعة إنسانية عن الألم الدفين الذي لا يظهره الفنان إلا من خلال بعض المغامرات الأُسلوبية على صعيد الخطوط القوية والألوان الحادة وبعض الموضوعات أيضاً.
وبخلاف منظومته اللونية التعبيرية التي تحتفي بألوان الحياة اليومية في رسوماته التي تأخذ مادتها من العالم الموضوعي، سواء كانت لوحته تمثل الطبيعة أو أحد موضوعاتها المحيطة بحياتنا اليومية، فإن لوحاته أحياناً تذهب إلى أبعد من هذا التعبير، حيث الكامن في الحكاية والمضمر وتتويجه بالرمزي والعلامي في كثير منه، وبهذا يعمد إلى تحليل اللون الواحد إلى منظومة لونية متدرجة عنه، لكنه يميل إلى اللون القهوائي وتدرجاته التي تصل إلى الترابي بما يشير إلى المنطلقات البيئية في التعامل مع السطح التصويري لتكون مادته وألوانه هي البيئة والمحيط الذي يعلن انتمائه اليه بقوة فيلتقط ما تحفظه الذاكرة في ضوء الأثر المتروك عليها تبعاً للاستجابات النفسية التي فعلت فعلها على ذات الفنان.
فالظروف غير الطبيعية والحصار الثقافي الذي مر به الوطن تجلى واضحاً في لوحات حداد من خلال الاقتصاد باللون أو اللون المتسخ والممزوج مع ألوان أخرى أضحت تقنية ووسيلة لمعالجة السطح التصويري خدمة للغرض الرئيس وهو التعبير عن الداخل وتوثيق اللحظة العابرة والامساك بها، لتصبح اللوحة أو الخطاب القائم على مرجعيات فكريّة وثيقة إدانة للواقع والظروف كونها سجلت هذا الراهن بكوابحه الآيديولوجي أو الثقافي وقدمته نصاً يحتكم للجمال.