تنوع العروض وغياب التوصيف

منصة 2023/11/12
...

  د. عواطف نعيم  

تعد المهرجانات إحدى الوسائل المهمة لمد جسور التعارف والتعاون، وهي أيضا طريقة للترويج والتعريف بالطاقات الإبداعية، التي تعمل على الظاهرة المسرحية بكل تجلياتها، وفي المهرجانات ومن خلال فعالياتها يتم تبادل الأفكار، وتقديم المقترحات، وعقد الاتفاقات على أعمال، وتعاون مشترك بين كتاب ومخرجين وعاملين، لذا أصبحت المهرجانات قادرة على خلق علاقات فنية وفكرية ينهض بها أشخاص أو مجموعات  أو فرق، وليس بالضرورة أن تنهض بها وزارات، ولكن في الاغلب تعمل تلك الوزارات أو الهيئات على تعضيد تلك المبادرات، التي تدعو إلى أقامة ملتقيات أو مهرجانات ويزداد الاهتمام والدعم حين تنجح تلك المهرجانات في استقطاب أسماء وشخصيات لامعة وفرق متطورة في مجال الاختصاص والعمل.

ومهرجان "الدن" المسرحي الذي يقام كل سنتين في مدينة مسقط في سلطنة عمان واحدٌ من تلك المهرجانات، التي استطاعت فرقة مسرحية صغيرة تأسست في العام 1994 أن تنهض به، وتسعى إلى تكريسه، من خلال حماسة شباب وحبهم لأبي الفنون المسرح، وإيمانهم في أنه ضرورة اجتماعية لابد وأن يزهر ويزدهر في بلدهم، وزاد حلمهم وتطور طموحهم، بعد نجاح دورتهم الأولى فكان أن أصبح مبتغاهم. 

ولكن، كيف تكون مسقط مدينة تضم العالم إليها من خلال المسرح؟ لقد تميز مهرجان "الدن" في دورته الرابعة، والتي انطلقت للفترة 23 -31/ تشرين الأول بعد أن ألغي حفل الافتتاح، احتراما لأحداث مدينة غزة وما تتعرض له من عدوان إبادة وتدمير، بثلاثة محاور، وهي "محور مسرح الطفل، ومحور مسرح الشارع، ومحور مسرح الكبار"،  وكانت لكل محور من هذه المحاور الخاصة بالمسرح لجنةٌ تحكيميَّة تتابع وتقيم العروض المشاركة في المهرجان، عدا أن مسرح الكبار هو الوحيد، الذي حظيت عروضه بإقامة ندوات نقدية مباشرة أمام الجمهور الحاضر والمتواصل بشكل مثير للإعجاب طيلة أيام المهرجان، لذا فقد تنوعت العروض المشاركة في المهرجان وكانت الوفود الحاضرة تنتقل من مكان إلى آخر للمشاهدة والمتابعة.  حضرت دولٌ عربية وأجنبية وشاركت في تقديم فعالياتها الفنية، فكانت هناك عروض عمانية، وسورية وأردنية، وعراقية، ومصرية، وكويتية، إلى جانب عروض من تسبانيا، وأوزبكستان، وايران. 

الذي لفت الأنظار أن أغلب العروض في مسرح الكبار كانت شبابية من "مصر والكويت وعمان وسوريا واسبانيا"، وكانت في بعضها تقدم الكوركرافي وبعضها يقدم الكلاسيكي، وبعضها الآخر يشتغل على الحداثوية، لذا كان هناك ثمة فرق واضح بين عروض احترافية، وبين عروض تقترب من العروض والتدريبات المدرسية!

تزامن مع إقامة المهرجان وفعالياته إقامة ورش مسرحية في التمثيل والصوت والإلقاء والتوظيف الجسدي في الحركة على المسرح، وانتهى المهرجان وسط تنظيم جميل ومتابعة إعلامية جيدة ومثابرة، ولكن محنة المهرجان كانت تتجلى في لجان التحكيم، التي جاءت نتائجها مثيرة للتساؤل والتعجب، لا سيما في مسرح الطفل، ومسرح الكبار، ولعل السبب الرئيس، الذي كان وراء إخفاق هاتين اللجنتين تتحملها اللجنة المنظمة للمهرجان، إذ لم تضع توصيفا لمهرجانها، ولم يكن هناك اتفاق على آلية اشتغال ومعايير تعتمدها حين تقييم العروض وتوزيع الجوائز. فكيف يتم تقييم عرض مسرحي للأطفال يقوم على رقص وغناء الراب والهب هوب طيلة فترة العرض، من دون أن يحمل العرض رسالة تربويَّة أو جمالية، وكأنه عرضٌ لمسرح الطفل يضع الربح والخسارة قبل أن يضع قيم المسرح ورسالته في التوعية والمتعة، ثم يتوّج بأفضل عرض، بينما يتم تجاهل عروضٍ مسرحية تفاعل معها الأطفال وأحبوها، وكان الاشتغال فيها على مستوى عال من الاتقان والجمال فكريا وفنيا! ولم تكن التوصيات التي رفعتها اللجنة التحكيمية لمسرح الطفل بالأهمية ذاتها، بحيث تضع خارطة طريق لاختيار العروض بشكل سليم وناجح للمهرجانات القادمة، بل كانت مجرد انشاء غاب عنه التشخيص السليم وطغت عليه العجالة، أما اللجنة التحكيمية لمسرح الكبار فقد كانت هي الأخرى في بعد كامل عن الرؤية الحقيقية لطبيعة العروض المشاركة، إذ غاب عنها أن تضع هي الأخرى آلية اشتغال وطريقة تحكيم تعتمد الأسس والمعايير الحقيقية للتحكيم، مع الفرز الدقيق بين الاحترافي المتمكن من أدواته وبين المبتدئ والهاوي في المسرح، وقد اعتمدت المناصفة في الدور الرجالي الرئيس وأغفلته في الدور النسائي الرئيس! وغاب عنها أن العرض الذي يأخذ جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، لا تتجزأ جوائزه لأفراد، وبدلا من أن تقدم توصياتها بناءً على ما لاحظته ولمسته طيلة أيام المهرجان، ومن خلال متابعتها لعروضه المسرحية الموجهة للكبار اكتفت بالشكر والتبريك والتهنئة بنجاح المهرجان، وكأنها لم تلحظ شيئا أو لم يلفت نظرها شيء، ونسيت أن تنّوه بأنها رفعت عرضا احترافيا كبيرا من عروض المهرجان الموجهة للكبار من المسابقة الرسمية، من دون حتى أن تعلم أصحاب العرض بذلك وتضع المبررات، ما أثار الكثير من الاسئلة والاستغراب! ولعل اللجنة التحكيمية الوحيدة، التي تميزت بالرصانة والدقة والتوصيف السليم، ونجحت في تقييماتها وإعلان بيانها وتوصياتها، هي اللجنة التحكيمية الخاصة بمسرح الشارع، والتي كانت متكونة من أسماء ذات اختصاصات متنوعة ومهمة، وتعمل بآلية اشتغال علمية ملموسة، والتوصيات التي نؤكد أهميتها هي إحدى الوسائل التي تتيح لفريق إدارة المهرجان أن يتلافى الأخطاء والسلبيات، التي أعاقت وخلخلت الميزان النقدي والتحكيمي، كي يتم تجنبها في المهرجانات القادمة. لذا يعد اختيار لجان التحكيم من أولى المهام، التي تنهض بها اللجنة التحضيرية لأي مهرجان يسعى للنجاح والاستمرار بتطور وتفوق، وأن تختارها بعيداً عن الإخوانية والمجاملة وبطولات "الفيسبوك". ولكن، يبقى مهرجان "الدن" واحدًا من المهرجانات العربية، التي تسعى للثبات والرسوخ على خريطة الثقافة والفنون المسرحية في الوطن العربي، ساعية إلى احتضان العالم، ولعل أجمل ما في هذا المهرجان هو الطيبة والدفء الذي يميز هذه المدينة وأهلها. 


كاتبة ومخرجة مسرحية