هل تصنع سينما حقيقيَّة؟

منصة 2023/11/12
...

    علي العقباني


 خلال قرن وعقدين من الزمن مرت المنطقة بجملة حروب كارثية ومدمرة، وثورات واحتلالات وتغيرات، لكن السينما لم تتمكن من تقديم أفلام تؤرخ أو تليق بتلك المرحلة، سوى أعداد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فالثورة السورية الكبرى مثلاً لم تحظ بفيلم سينمائي يوثق ويؤرخ ويقدم ما يليق الفعل الوطني الذي حرر البلاد، وكذلك حرب تشرين، وهي الأكبر مع إسرائيل منذ احتلالها لفلسطين والجولان السوري وجزء من مصر والأردن ولبنان.    

نشأ في سورية خلال 40 و50 عاماً الأخيرة جيل سينمائي بدأ في محاولة تحقيق ما يمكن تسميته "سينما وطنية سورية" بديلاً عن السينما التجارية الرائجة آنذاك، وترافق هذا الطموح السينمائي في سورية مع نظرائه ليس في بلدان الشرق الأوسط فقط، بل حتى في شمال إفريقيا، إذ بدأت تتأسس سينما وطنية آنذاك في تونس والمغرب والعراق والجزائر، وكبرت الطموحات والأحلام وعُقدت المؤتمرات والندوات، وبدأ الانتظار والنظر إلى ما ستحققه هذه الأفلام الجديدة  والمختلفة، والتي انطلق صناعها من صدق العلاقة مع الواقع ومعرفته بطريقة ذاتية ووجدانية خاصة، معتمدين ومؤسسين  بشكل خاص ومُختلف عن السائد فنياً وتجارياً ولغوياً أيضاً.

وفي سورية ذهب الاعتقاد إلى أنه "طالما يَتَصدَّى القطاع العام لإنتاج الأفلام، فلن يكون شُبَّاك التذاكر هو المرجع، لأنه بالأساس ليست هناك في العالم العربي سوق أو صناعة سينمائية سوى في مصر، ومع ذلك استمر العمل والنضال عبر  أعوام طويلة في كل تلك البلدان، وشاهدنا العديد من الأفلام المهمة، التي تمكنت من تأسيس سينما أفلام عربية جديدة لاقت نجاحات كبيرة.

تراجع الإنتاج السينمائي العربي، لا سيما في سورية خلال السنوات الـ15الماضية" مع نهضة واضحة في السنوات الأخيرة كماً ونوعاً في بعض الدول"،  وبات  اللهاث خلف معطيات الحالة الجديدة، الحرب.. ففي سورية تكمن الإشكالية الكبرى في آلية الإنتاج المتعبة، والتي بدأ المختصون محاولة العمل على اشراك القطاع الخاص في العملية الإنتاجية والتوزيعية للأفلام، لكن الظاهرة الأعم،  هي أن المنتج الوحيد في سورية هو الدولة، لأنها صاحبة رأس المال، لذا فإن أي مخرج أو كاتب لن يتمكن من أن يصنع  فيلما معارضاً، أو يقدم صورة تتوافق مع احتمالات الحدث غير الرسمية وتأويلاته وأبعاده وحقيقته ربما، وهو ما بدا عملاً مستحيلاً وخصوصاً حينما ترفع الدولة شعارات الحرب والوجود و الدفاع عن النفس،  كشعار أول وأساسي يحكم اللحظة الراهنة، الحرب في سورية، أو الحرب على سورية، فكيف يمكن لسينمائي أن يصنع سينما بالمعنى العميق للكلمة، أي سينما خارج اطار الشعارات والبيداغوجية العسكرية وصراع مع أو ضد. 

فطبيعة الأفلام هنا تنتمي لنوعية الدفاع اللوجيستي عن النظام وشيطنة الآخرين وتحويلهم إلى أدوات أو دمى، لا هم لها سوى المال والنساء والجنس، قادمون من أصقاع الأرض كافة، مستغلين الدين واطئة للصعود، إضافة إلى أفلام تحاول التحدث عن الواقع وانعكاسات الحرب على المجتمع والمكان والأفراد، والمخاطر الناشئة في ظل احتلالات متعددة للأمكنة،  لذلك فإن الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما أو التلفزيون هي دفاعية وانتقائية وتنقل علاقة الواقع بالتأثيرات الخارجية، وهذا ربما ما فعلته الجهة الأخرى، بفارق قنوات التمويل وأماكن العرض والفرص المتاحة عالميا. 

وهنا ولأننا ننتمي للثقافة وللسينما بالمعنى الواسع والمنفتح للكلمتين، فإننا نبحث عن سينما تخرج من خنادق الحرب ومعسكراتها ومن جبهات القتال، سينما حقيقية تدافع عن الواقع بكل مكوناته وتفاصيله وتركيباته، وهذا يتطلب نصوصاً مختلفة وسينمائيين مختلفين وجهات إنتاجية مغامرة 

تدافع عن السينما، باعتبارها فناً إنسانياً حقيقياً وليست مكاناً للدعاية و"البروباغندا" العسكرية والفكرية. وهذا ينطبق على سينما الداخل والخارج معاً، لأن السينما 

أو الوقت الراهن لسينما الحرب تتطلب زمنا ومسافة ورؤية أعمق بكثير من اللحظات الساخنة، حيث صوت القنابل والطائرات والقصف والموت والخوف والهروب في كل مكان.

 ومن هنا بقيت أسماء سينمائيين سوريين كمحمد ملص، وسمير ذكرى، والراحل ريمون بطرس، وغيرهم خارج سرب المؤسسة العامة للسينما، في حين برزت أسماء نجدت أنزور، وباسل الخطيب، وأيمن زيدان، وجود سعيد، وعبد اللطيف عبد الحميد، بأشكال مختلفة ومتباينة في سينما الحرب. 

فالمشكلة هنا تكمن في الإنتاج والرؤية حول السينما ودورها ولا أنيتها، وكذلك في التعاطي معها كعامل وحامل ثقافي مهم ومؤثر داخلياً وخارجياً، في رحلة البحث عن السينما الحقيقية لا السينما الدعائية.. سينما تعيش لسنوات طويلة حين تتوقف رحى الحرب وتعود الشاشات إلى بياضها والأرواح إلى اتساعها والعيون إلى مدى بعيد من البصر والبصيرة أكثر عمقاً وحباً وحياة.