لم تعد العبودية في عالم اليوم تعني أن يباع العبيد الضعفاء في الأسواق، أو عبودية التفوق اللوني للجنس البشري، كما في صراع ذوي البشرة البيضاء مع السوداء.
العبودية اليوم صارت خاضعة لمقاييس مفاهيمية تتعلق بالانقياد الخطير لما تنتجه المساحات الالكترونية، بحيث انها صارت خاضعة لمنطق يبدو وكأنه تجسيد وهمي لمفهوم (القرية الصغيرة) بعد أن صار الإنسان مستسلماً بشكل شبه كلي إلى سجّانه التواصلي الالكتروني الذي يتيح له محاورة زميله السجين الآخر الذي يبتعد عنه بمسافات شاسعة بينما هما يقبعان في ذات السجن
الالكتروني.
لكنَّ سجناء الالكترون مستمتعون بعبوديتهم هذه، حيث يوفر لهم السجن الالكتروني خدمات مجانية تزيد من فصامهم وخدرهم، غير آبهين بما يجري حولهم من أحداث تعصف بانسانيتهم ووجودهم على كوكب المتناقضات هذا.
وأكثر أشكال العبودية انتشاراً في الوقت الحالي هي لعبة (بوبجي) الالكترونية، وهي من الألعاب التي يكون اللاعب فيها مجسداً لشخصية خيالية أو افتراضية، تخوض معركة هي الأخرى افتراضية مع آخرين دخلوا كذلك في شخصيات افتراضية، وهكذا يهيمن الافتراض لدرجة أن (سين) انصهر كلياً بشخصيته المستعارة، وصار يتصرف حتى في بيته وكأنه تلك الشخصية الأخرى بعد توطد العلاقة بين الشخصيتين، ومن ثم الهيمنة المطلقة للشخصية المستعارة على الشخصية الحقيقية، وبذلك يكون الإنسان قد انفصل عن واقعه الحقيقي، ولم تعد له القدرة على التفاعل مع
مجتمعه.
ويمكن تفهم إقبال المراهقين على مثل هذه الالعاب؛ لأسباب تتعلق بتبدل الأطوار العمرية لهم، لكنَّ الغريب هو ان العبودية الالكترونية ممثلة بلعبة “بوبجي”؛ واصلت مراحل تغييب الإنسان حتى في أعمار ينبغي أنها وصلت لمرحلة النضج، بل أن المضحك فعلاً وشر البلية ما يضحك هو السماح للموظفين بممارسة هذه اللعبة لمدة نصف ساعة أثناء الدوام الرسمي كما حدث مع إحدى الدوائر الحكومية في أحد البلدان العربية كُتب فيها: “يسمح للموظفين بلعب لعبة بوبجي لمدة نصف ساعة خلال أوقات الدوام” وهنا تكون العبودية قد وصلت إلى الدوائر ومعاملات الناس، ولنتخيل كيف للموظف إنجاز عمله وهو ذائب في شخصيته الافتراضية، بل كيف سيكون سلوكه مع المراجعين إذا كان (مقتولاً) في
بوبجي؟!
قبل أيام، أثيرت عندنا قضية حظر هذه اللعبة من المواقع الالكترونية لما تنتجه من عنف أو تشجع على ممارسته، فكانت ردود الفعل تجاه هذا القرار قد عكست حالة من الشيزوفرينيا المجتمعية التي ينبغي التوقف عندها، ودراستها؛ لأننا فعلاً إزاء طور جديد من العبودية الالكترونية، يستفحل ويتغلغل في أوساطنا المجتمعية.
والغريب أن ردود الأفعال هذه لم تأت من صبية مراهقين أدمنوا على هذه اللعبة، بل شملت من هم أرباب الأسر من آباء وأمهات ضجت بمواقفهم وسائل التواصل، بل أن ردود الأفعال امتدت لتشمل مدرسين ومهندسين وأدباء، فصارت صفحات هؤلاء “النخب” حفلة مجانية للسخرية من القرار، والدفاع عن حرية ممارسة هذه اللعبة التي جعلت من التشظي الأسري والعائلي واقعاً ملموساً يؤسف له.
ولنا أن نتخيل فرح المراهقين وهم يرون نخب المجتمع مدافعين عن هذا الشكل من العبودية التي صار من المهم جداً التوقف عنها لحماية ما يمكن حمايته من التماسك المجتمعي
المتراجع.