أطفالُ غزَّة
حسن الكعبي
أدب المقاومة عند غسان كنفاني، لا يمثل نشاطا يتحرى المشترطات الفنية، التي تضمن له مساحة بين الفنون الراقية، بقدر ما هو فعل مختلط بالسياسية ومتشرب بالقضايا الإنسانية وهمومها المتصلة بإثبات الهوية وإثبات الوجود بمواجهة قوى الاستلاب، بمعنى أن محور أدب المقاومة هو محور متجذر بهذه المحنة الانطولوجية، التي يتجاذبها طرفي النفي والاستلاب ومحاولة مواجهة هذا النفي بنفي مضاد.
فالمهمة الأساسية التي ينهض بها أدب المقاومة هي اثبات الهوية، لمواجهة آخر يحاول نفيها ثقافيا، من خلال التكريس لأدب دعائي يمجد قضاياه ويضفي عليها طابع التقديس، وفي الوقت ذاته يعمل على تنميط صورة للآخر تظهره بمظهر المتوحش والبربري، وهي الصورة التي رسمها الأدب الصهيوني للآخر الفلسطيني والعربي في سياق التماهي مع المسعى الاستشراقي، لتنميط صورة لشرق يتصف بهذه الصفات، التي أنتجها المخيال الصهيوني، ولذلك فإن كنفاني يؤكد "بكتاب مثل دانييل ديروندا ومسرحية مثل مسرحية بينسكي - اليهودي الازلي - سيقفز الأدب الصهيوني إلى مهمته المباشرة في مطلع القرن العشرين، مدفوعا من قبل حركة سياسية منظمة هيأت له التشجيع والحث والحماية".
يقدم الأدب الصهيوني نماذج دعائية عبر أبطال هذه الأعمال السردية المتخيلة – كما يقول كنفاني - مثل "بينسكي في مسرحية اليهودي الأزلي، فهو مجرد داعية يتحدث عن اسلوب للعمل، وخطة لاستعمار فلسطين، ويطرح شعارات ذات رنين فكري وفلسفي".
والمهمة التي يضطلع بها الأدب الصهيوني تكمن ضمن هاجس "تبرير الغزو الصهيوني لفلسطين وإبراز العقيدة الصهيونية المبنية على مبدا الرد على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود، وهي دعوى تشكل جوهر الأعمال الأدبية الصهيونية - كما يؤكد كنفاني - والهاجس الآخر هو العمل على إظهار ميزات "غيبية لليهود وأن أسبقية الدين اليهودي على بقية الديانات، يمكن أن ينبثق عنه أسبقية الإنسان اليهودي عن بقية البشر من حيث الوعي والقيمة".
عمل غساني كنفاني ضمن هذه المنظورات النقدية، احتل مركزيته ضمن الدراسات ما بعد الكولونيالية، وفي سياق أسبقيته في الدعوة إلى ايجاد أدب مضاد، يجد تجسداته ضمن مفهوم أدب المقاومة الذي اقترحه كأدب يتوجب عليه نفي الصورة النمطية التي اخترعها المستعمر، واظهار عصابيته وبربريته، وجهد كنفاني يشكل وعيا متطورا في التأصيل النظري للنقد الثقافي، غير أن هذا التأسيس ظل يعمل ضمن محور الأدب الفلسطيني، ولم يرتحل به إلى مساحات جغرافية تعاضد هذا المفهوم، كما تنزل في مشاريع إدوارد سعيد في تنظيراته لمفهوم أدب المقاومة، الذي انفتح على آداب الشعوب المستعمرة، ضمن منظوراته الطباقية التي تعاين الأدب من زاوية التأثير الثقافي في البني الفوقية وتفكيك سردياتها بسردية مضادة.
ولذلك فإن المهمة الاساسية التي يرتكز عليها جهد إدوارد سعيد، تكمن في دراسة الأدب والفن ضمن منظور اختلاطه وتورطه بالسياسي وتوجيهه ضمن مسار أدب المقاومة الذي يختط له مجالا كونيا يتخطى المساحة التي اصلها كنفاني ضمن هذا المفهوم، وهنا تكمن مفارقة إدوارد سعيد لمنظورات كنفاني، وهي مفارقة تضمن حضور أدب وفن المقاومة في سياق التجاور بين آداب الشعوب المستعمرة، فمن سلمان رشدي وفرانز فانون والطيب صالح ومحمود درويش، وآخرين، يبلور سعيد مفهومه لأدب المقاومة.
بالاستناد إلى هذه المنظورات تتموضع الممارسات الأدبية والنقدية، التي ظهرت على خلفية جرائم الابادة في غزَّة ، كممارسات تؤسس لارتباطها بأدب المقاومة الذي يعمل على فضح بربرية وتوحش الاخر الصهيوني، وبذلك فهي تنهض بمهامها الثقافية المنبثقة عن المسؤولية الاخلاقية تجاه القضايا الإنسانية وتحديد موقفها الثقافي والاخلاقي ازاءها.
في هذا المجال تتنزل قصيدة - الشهداء الملائكة للشاعر عبد الحسين بريسم - التي تتمص واقع الاحداث في غزَّة ، وتعيد تمثيلها ضمن هذه التأطير الصوري، الذي يراعي التكثيف الدلالي المحيط بالوقائع والاحداث بإيجاز يفتتح مجالا أرشيفيا لتدافع هذا الوقائع، ويراهن الشاعر في اختزالاته في بناء الصورة على ذاكرة المتلقي الذي يعد طرفا مهما في ترميم وملء فجوات النص.
يتقصد الشاعر في عنونة النص (الشهداء الملائكة) منظورا اختلافيا بالمعنى التفكيكي، الذي يعني حسب - جاك دريدا- انتزاع معنى الاشياء من اضدادها، بمعنى أن الشاعر يقرر سلفا حسب الموجه الدلالي للعنونة، بان الضد للملائكة هم الشياطين، ويفصح هذا التوجيه عن تحيزات الشاعر للطرف الأول (الملائكة) ضمن هذه الثنائية الضدية، وينمط صورة الطرف الثاني ضمن الشيطنة.
إن تحيزات الشاعر تظهر ضمن هذه الصورة:
لم يتعلموا الطريق إلى المدرسة بعد
لكنهم وجدوا الطريق سالكا إلى الجنة
لم تكن لهم قبة حديدية
تحميهم من لهيب الصواريخ
ولكنهم يحفظون على ظهر قلب
قبة الصخرة
لذلك منحهم الله
اجنحة صغيرة
تكفي للعبور
إلى جنته.
هذه الصورة التي يرممها الشاعر استنادا إلى تقنيات الاستعادة والتذكر (فلاش باك) تظهر طابع الاستلاب للحقوق ومحاولة محو هوية الانا التي - يؤسس الشاعر لارتباطه بها - من قبل الاخر المشيطن، فالشهداء الأطفال لم يأخذوا صحتهم من التعليم لوجود اخر متوحش يهدد وجودهم ويتحرى موتهم وهم يواجهون هذا الموت، ببراءة الأعزل الذي لا يملك سلاحا للمواجهة أو سقفا للحماية، سوى هذا القرب من الله الذي يمكنهم من الخلاص، بمنحهم أجنحة للوصول إلى مكان آمن هو الجنة، ليكون الجحيم هو المكان الذي ينتظر الآخر، استنادا إلى منظور الاختلاف الذي يستحضر ثنائياته الضدية.
يؤسس النص لاختلافه مع تقاليد النصوص الحداثية بمرتكزاتها على مفاهيم التشتت الدلالي وتعدد الأغراض، في سياق تأطير النص وبنائه، استنادا إلى مفهوم عضوية النص ووحدة الغرض كتقاليد متجهة مما يعرف بالنصوص التقليدية التي تحدد مواطن كمونها ضمن مفهوم الغرض، ولذلك، فإن مسارات النص وتراكيبه تعتمد وحدة الغرض وتتابع الصورة في سياق هذه الوحدة:
آخر ما ظل في أحداقهم
نظره باكية على مهد الطفولة
وآخر لعبه اشتراها
أب سبقهم
مضرجا
بالدماء التي اختلطت مع دماء أم
وظلت الدمية تبكي عليهم
في انقاض بيتهم العتيق
سأقول كل شيء إلى الله
قالها طفل عراقي
إذن قول أنتم
أيضا رسالته ورسالتكم
إلى الله
الذي ابدلكم أجنحة
لتلعبوا معه
في الجنة.
إن تركيب الصورة وبناء الجملة ارتكازا إلى علم الأسلوبية، يعتمد التوازيات البلاغية باستنهاض الدلالات عبر التكرار ضمن مستوى مركزية الجملة أو مركزية المعنى الذي يعمل النص على اظهاره، وهو معنى يتقصد اظهار مظلومية الأنا بإزاء توحش الآخر كمهمة اساسية لهذا النص ولأدب المقاومة بشكل عام، ولذلك فإن هذه المظلومية المهيمنة على مشهدية النص تتجاوز المنظورات التي تحتجزه في اطار تأويلي يسم النص بالارتكاسي أو الاستسلامي الجنائزي، إلى منظور يضعه في سياق متعالق مع أدب المقاومة، فالمظلومية تنهض بمهمة تقويض مرتكزات الآخر في تبرير وحشيته، كتبريرات متجهة من نرجسيات وتمركزات دينية يحاول الاخر أن يؤسس من خلالها قدسيته وارتباطه بالله بإزاء آخر مدنس يتوجب اقصاؤه ونفيه، بمعنى أن المظلومية في نص الشهداء الملائكة، تعمل على قلب المعادلة وربط الأنا بهذه القداسة، لتنميط صورة مدنسة للآخر.
إن مهام أدب المقاومة وسماته الأساسية تكمن في التخفف من أعباء الرمز وتكثيفاته الدلالية واعتماد الوقائع كأداة أساسية في المواجهة، فكما يقول احسان عباس في سياق قراءته لأعمال كنفاني إن "من يقرأ أدب كنفاني يحس أن الرمز لم يعد ضروريا، وإنما أصبحت مواجهة الحقيقة هي الشيء المهم"، وفي نص الشهداء الملائكة تشعر بعدم ضرورة الرمز.
لكن هذا لا يعني تجريد النص من مشترطاته الجمالية، بل التأكيد على ضرورة أن يعي النص وهو يسعى لأن يتموضع ضمن هذه المواجهة،بأن يتخفف من الرمز المفضي إلى الغموض والاستعانة بعناصر جمالية يكتسي من خلالها ضمانات تموضعه ضمن مستوياته الفنية والجمالية.
ونص الشهداء الملائكة استعان بعناصر جمالية كالاختزال والتكثيف والاقتصاد والإحالة، التي فرضت هذه النوعية من الغموض، لكنه الغموض الذي يعبر عنه- بيير زيما - بانه، "المنبثق من رؤيا أنه لا يمكن أن يكون الفن صريحا يسلم نفسه من المرة الأولى بوضوح كامل، الفن يستعين بعناصر أخرى كثيرة مختلفة وهو يعطي تعبيرا غير عادي بأن يعبر عن الأشياء العادية بأسلوب غير عادي، وغير مـألوف "تحتل الانزياحات ضمنه دوراً مهماً في إحداث تغريبات النص وآثاره
الجمالية".