كاظم لفتة جبر
إن البحث عن الحقيقة عقلياً يجب أن يكون بحثاً مجرداً عن كل رغبة، أو مصلحة، أو غاية، أو عاطفة. في حين أن المشاعر تخضع لإغراء المحبة، أو الفطرة الإنسانية، أو المصالح الثنائية، سواء كان في الوطن، أو الدين أو العمل.
تَميز الوجود الإنساني بوجود ثنائية النفس والجسد، أو العقل والقلب، وعلى هذا الأساس بنى الفكر العالمي للبشرية جميع منجزاته، وحروبه، ولهذا يذهب البعض إلى أن تاريخ التفكير الفلسفي كان بحثا عن الحقيقة العقلانية المجردة عن كل الملذات والأهواء والرغبات. وبحسب فكرهم فإنه يجب أن تكوّن الفلسفة إنسانا آليا تتحكم به الأشياء، وفقا لحقيقتها المنشودة، وهذا ليس بعيداً عن ممن كان يدعو إلى أن يكون الإنسان مثالياً في كل شيء، مبتعدا عن الواقع، أو سلفيا لا يريدنا أن نعيش حياتنا.
فالإنسان كائن راغب، قبل أن يكون عقلانيا، وحجب الرغبة ومشاعر الإنسان عن الحقيقة لهو اعتداء على إنسانية الإنسان، وكفر بحق خلق الله، فالله جعل لكل مخلوق ميزته، وميزه الإنسان بالعاطفة والمشاعر، وهي تناظر الرحمة عند الله، فالله عندما خلق الإنسان قال للملائكة اني جعلت الإنسان خلفتي في الأرض، والخلافة تحتاج التميز بصفات الخالق، مع فرق استخدام هذه الصفات بين العالمين، الإلهي والإنساني، فالرحمة صفة الإله المطلقة، وتناظرها العاطفة والمشاعر النسبية لدى الإنسان، وبما أن الأول هو الخالق، الذي بيده كل شيء فجاءت الرحمة جزءا من ذاته، أما مع الإنسان تكون العاطفة والمشاعر موجودة لكن خارج أردته، وهي على نوعين فطرية إنسانية، ومكتسبة من خلال البيئة (الأسرة، المدرسة، المجتمع،الدين).
لذلك الحقيقية العقلية عند الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقاً بالعاطفة ولا يمكن فصلها عنها، فعندما نرى إنسانا بريئا مقتولاً إذا كان عدوا لنا، فنجد حقيقة القتل عدلا لنا، أما إذا كان هذا القتل يطال أبناء جلدتنا الأبرياء فهو باطل وظلم، فحقيقة القتل واحدة، لكن نظرتنا لها مختلفة، بحسب موقعنا الجغرافي أو الاجتماعي، أو السياسي والديني أو الاقتصادي والثقافي، لذلك لا يمكن أن تكون الحقيقة عقلية بامتياز، ما دام البشر خاضعين لمشاعرهم وعاطفوهم ورغباتهم ومصالحهم .
لكن الفلسفة تتخذ قرارها، بأن الحد الفاصل لمعرفة الحقيقة ليس العقل وحده بل هي الأخلاق الإنسانية، حيث تجد مصدرها الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الإنسان، خالصة من كل تبعيات وملذات ولهو الحياة المادية.
لذلك نجد الفيلسوف النمساوي فرويد بحث عن الحقيقة من خلال النفس الإنسانية ومعرفة رغباتها وكبتها، وفوكو بحث عن الحقيقة من خلال السلطة، وابن خلدون وكونت من خلال المجتمع، ودولوز من خلال المفاهيم، وسقراط من خلال الغاية والوظيفة، وافلاطون من خلال المثالية، وأرسطو من خلال الواقعية. الخ من بحث الفلاسفة.
لهذا لا يمكن الجزم بالحقيقة ومعرفة أسبابها، إلا من خلال دراسة دوافع الإنسان ورغباته، فالحقيقة العقلية المجردة عند الإنسان وهم لا يمكن الوصول لها، لأن أي فعل لدى الأفراد والمجتمعات خاضع لغاية وهدف ومصلحة سواء كانت خيّرة أو شريرة.
فعندما يقفز لنا الفيلسوف الغربي الألماني هابرماس وهو ينظر إلى حقيقة القضية الفلسطينية بعين واحدة، بعيداً عن قتل الأطفال، وتهجير السكان عن بلدهم، واعتقال وسجن وتعذيب الأسرى الفلسطينيين، وضرب المستشفيات بالقنابل المحرمة دولياً، ما هذا إلا دليلٌ على أن الحقيقة لا يمكن فصلها عن عاطفة ومشاعر وتبعيات الإنسان العادي أو المثقف، فكل الحقائق التي يؤمن بها الإنسان، تكون حقيقية بالنسبة له كلاً بحسب موقع القرب أو البعد عنها، وهذا المسافة تحدد من قبل عدة عوامل ذكرنها سلفاً أهمها السياسية والاجتماعية والدينية.
فسقطة هابرماس هي سقطة للفلسفة الغربية، التي اعتاد العرب على استخدام أدواتها في التفكير الفلسفي والإبداعي، وهذه فرصة للعقل العربي أن يعيد حساباته، وأن ينطلق في بناء فكره في ظل التعددية الثقافية للعالم اليوم. فلنبنِ حقيقتنا على وفق مقاييسنا ونهب عقولنا الرفعة والإبداع.